Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذا دَعاكم لِما يُحْيِيكُمْ﴾ إعادَةٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ [الأنفال: ٢٠] الَّذِي هو بِمَنزِلَةِ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ أوْ مَقْصِدِ الخُطْبَةِ مِن مُقَدِّمَتِها كَما تَقَدَّمَ هُنالِكَ.
فافْتِتاحُ السُّورَةِ كانَ بِالأمْرِ بِالطّاعَةِ والتَّقْوى، ثُمَّ بَيانِ أنَّ حَقَّ المُؤْمِنِينَ الكُمَّلَ أنْ يَخافُوا اللَّهَ ويُطِيعُوهُ ويَمْتَثِلُوا أمْرَهُ وإنْ كانُوا كارِهِينَ، وضَرَبَ لَهم مَثَلًا بِكَراهَتِهِمُ الخُرُوجَ إلى بَدْرٍ، ثُمَّ بِكَراهَتِهِمْ لِقاءَ النَّفِيرِ، وأوْقَفَهم عَلى ما اجْتَنَبُوهُ مِن بَرَكاتِ الِامْتِثالِ وكَيْفَ أيَّدَهُمُ اللَّهُ بِنَصْرِهِ ونَصَبَ لَهم عَلَيْهِ أمارَةُ الوَعْدِ بِإمْدادِ المَلائِكَةِ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهم بِالنَّصْرِ، وما لَطَفَ بِهِمْ مِنَ الأحْوالِ، وجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ إقْناعًا لَهم بِوُجُوبِ الثَّباتِ في وجْهِ المُشْرِكِينَ عِنْدَ الزَّحْفِ، ثُمَّ عادَ إلى الأمْرِ بِالطّاعَةِ وحَذَّرَهم مِن أحْوالِ الَّذِينَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وهم لا يَسْمَعُونَ، وأعْقَبَ ذَلِكَ بِالأمْرِ بِالِاسْتِجابَةِ لِلرَّسُولِ إذا دَعاهم إلى شَيْءٍ فَإنَّ في دَعْوَتِهِ إيّاهم إحْياءً لِنُفُوسِهِمْ، وأعْلَمَهم أنَّ اللَّهَ يُكْسِبُ قُلُوبَهم بِتِلْكَ الِاسْتِجابَةِ قُوًى قُدْسِيَّةً.
واخْتِيرَ في تَعْرِيفِهِمْ، عِنْدَ النِّداءِ، وصْفُ الإيمانِ لِيُومِئَ إلى التَّعْلِيلِ كَما تَقَدَّمَ في الآياتِ مِن قَبْلُ، أيْ أنَّ الإيمانَ هو الَّذِي يَقْتَضِي أنْ يَثِقُوا بِعِنايَةِ اللَّهِ بِهِمْ فَيَمْتَثِلُوا أمْرَهُ إذا دَعاهم.
صفحة ٣١٢
والِاسْتِجابَةُ: الإجابَةُ، فالسِّينُ والتّاءُ فِيها لِلتَّأْكِيدِ، وقَدْ غَلَبَ اسْتِعْمالُ الِاسْتِجابَةِ في إجابَةِ طَلَبٍ مُعَيَّنٍ أوْ في الأعَمِّ، فَأمّا الإجابَةُ فَهي إجابَةٌ لِنِداءٍ وغَلَبَ أنْ يُعَدّى بِاللّامِ إذا اقْتَرَنَ بِالسِّينِ والتّاءِ، وتَقَدَّمَ ذَلِكَ عَنْ قَوْلِهِ - تَعالى - ”﴿فاسْتَجابَ لَهم رَبُّهُمْ﴾ [آل عمران: ١٩٥]“ في آلِ عِمْرانَ.وإعادَةُ حَرْفٍ بَعْدَ واوِ العَطْفِ في قَوْلِهِ ”ولِلرَّسُولِ“ لِلْإشارَةِ إلى اسْتِقْلالِ المَجْرُورِ بِالتَّعَلُّقِ بِفِعْلِ الِاسْتِجابَةِ، تَنْبِيهًا عَلى أنَّ اسْتِجابَةَ الرَّسُولِ ﷺ أعَمُّ مِنَ اسْتِجابَةِ اللَّهِ لِأنَّ الِاسْتِجابَةَ لِلَّهِ لا تَكُونُ لا بِمَعْنى المَجازِ وهو الطّاعَةُ بِخِلافِ الِاسْتِجابَةِ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - فَإنَّها بِالمَعْنى الأعَمِّ الشّامِلِ لِلْحَقِيقَةِ وهو اسْتِجابَةُ نِدائِهِ، ولِلْمَجازِ وهو الطّاعَةُ، فَأُرِيدَ أمْرُهم بِالِاسْتِجابَةِ لِلرَّسُولِ بِالمَعْنَيَيْنِ كُلَّما صَدَرَتْ مِنهُ دَعْوَةٌ تَقْتَضِي أحَدَهُما.
ألا تَرى أنَّهُ لَمْ يُعِدْ ذِكْرَ اللّامِ في المَوْقِعِ الَّذِي كانَتْ فِيهِ الِاسْتِجابَةُ لِلَّهِ والرَّسُولِ ﷺ بِمَعْنًى واحِدٍ، وهو الطّاعَةُ، وذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعالى - ”﴿الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ والرَّسُولِ مِن بَعْدِ ما أصابَهُمُ القَرْحُ﴾ [آل عمران: ١٧٢]“ فَإنَّها الطّاعَةُ لِلْأمْرِ بِاللَّحاقِ بِجَيْشِ قُرَيْشٍ في حَمْراءِ الأسَدِ بَعْدَ الِانْصِرافِ مِن أُحُدٍ فَهي اسْتِجابَةٌ لِدَعْوَةٍ مُعَيَّنَةٍ.
وإفْرادُ ضَمِيرِ ”دَعاكم“ لِأنَّ الدُّعاءَ مِن فِعْلِ الرَّسُولِ مُباشَرَةً، كَما أُفْرِدَ الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ ”ولا تَوَلَّوْا عَنْهُ“ وقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا.
ولَيْسَ قَوْلُهُ ”﴿إذا دَعاكم لِما يُحْيِيكُمْ﴾“ قَيْدًا لِلْأمْرِ بِاسْتِجابَةٍ ولَكِنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ دُعاءَهُ إيّاهم لا يَكُونُ إلّا إلى ما فِيهِ خَيْرٌ لَهم وإحْياءٌ لِأنْفُسِهِمْ.
واللّامُ في ”﴿لِما يُحْيِيكُمْ﴾“ لامُ التَّعْلِيلِ أيْ دَعاكم لِأجْلِ ما هو سَبَبُ حَياتِكُمُ الرُّوحِيَّةِ.
والإحْياءُ تَكْوِينُ الحَياةِ في الجَسَدِ، والحَياةُ قُوَّةٌ بِها يَكُونُ الإدْراكُ والتَّحَرُّكُ بِالِاخْتِيارِ، ويُسْتَعارُ الإحْياءُ تَبَعًا لِاسْتِعارَةِ الحَياةِ لِلصِّفَةِ أوِ القُوَّةِ الَّتِي بِها كَمالُ مَوْصُوفِها فِيما يُرادُ مِنهُ مِثْلَ حَياةِ الأرْضِ بِالإنْباتِ وحَياةِ العَقْلِ بِالعِلْمِ وسَدادِ الرَّأْيِ، وضِدُّها المَوْتُ في المَعانِي الحَقِيقِيَّةِ والمَجازِيَّةِ، قالَ - تَعالى - ”﴿أمْواتٌ غَيْرُ أحْياءٍ﴾ [النحل: ٢١]“ ”﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ﴾ [الأنعام: ١٢٢]“ وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ الأنْعامِ.
والإحْياءُ والإماتَةُ تَكْوِينُ الحَياةِ والمَوْتِ. وتُسْتَعارُ الحَياةُ والإحْياءُ لِبَقاءِ
صفحة ٣١٣
الحَياةِ واسْتِبْقائِها بِدَفْعِ العَوادِي عَنْها ”﴿ولَكم في القِصاصِ حَياةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩]“ ”﴿ومَن أحْياها فَكَأنَّما أحْيا النّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: ٣٢]“ .والإحْياءُ هَذا مُسْتَعارٌ لِما يُشْبِهُ إحْياءَ المَيِّتِ، وهو إعْطاءُ الإنْسانِ ما بِهِ كَمالُ الإنْسانِ، فَيَعُمُّ كُلَّ ما بِهِ ذَلِكَ الكَمالُ مِن إنارَةِ العُقُولِ بِالِاعْتِقادِ الصَّحِيحِ والخُلُقِ الكَرِيمِ، والدَّلالَةِ عَلى الأعْمالِ الصّالِحَةِ وإصْلاحِ الفَرْدِ والمُجْتَمَعِ، وما يَتَقَوَّمُ بِهِ ذَلِكَ مِنَ الخِلالِ الشَّرِيفَةِ العَظِيمَةِ، فالشَّجاعَةُ حَياةٌ لِلنَّفْسِ، والِاسْتِقْلالُ حَياةٌ، والحُرِّيَّةُ حَياةٌ، واسْتِقامَةُ أحْوالِ العَيْشِ حَياةٌ.
ولَمّا كانَ دُعاءُ الرَّسُولِ ﷺ لا يَخْلُو عَنْ إفادَةِ شَيْءٍ مِن مَعانِي هَذِهِ الحَياةِ أمَرَ اللَّهُ الأُمَّةَ بِالِاسْتِجابَةِ لَهُ، فالآيَةُ تَقْتَضِي الأمْرَ بِالِامْتِثالِ لِما يَدْعُو إلَيْهِ الرَّسُولُ سَواءٌ دَعا حَقِيقَةً بِطَلَبِ القُدُومِ، أمْ طَلَبَ عَمَلًا مِنَ الأعْمالِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَيْدُ ”﴿لِما يُحْيِيكُمْ﴾“ مَقْصُودًا لِتَقْيِيدِ الدَّعْوَةِ بِبَعْضِ الأحْوالِ بَلْ هو قَيْدٌ كاشِفٌ، فَإنَّ الرَّسُولَ ﷺ لا يَدْعُوهم إلّا وفي حُضُورِهِمْ لَدَيْهِ حَياةٌ لَهم، ويَكْشِفُ عَنْ هَذا المَعْنى في قَيْدِ ”لِما يُحْيِيكم“ ما رَواهُ أهْلُ الصَّحِيحِ عَنْ أبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلّى، قالَ: «كُنْتُ أُصَلِّي في المَسْجِدِ فَدَعانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ أجُبْهُ ثُمَّ أتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْتُ أُصَلِّيَ فَقالَ: ألَمْ يَقُلِ اللَّهُ - تَعالى - ”﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذا دَعاكُمْ﴾“ ثُمَّ قالَ: ألا أُعَلِّمُكَ صُورَةُ» الحَدِيثِ في فَضْلِ فاتِحَةِ الكِتابِ، فَوَقْفُهُ عَلى قَوْلِهِ ”إذا دَعاكم“ يَدُلُّ عَلى أنَّ ”لِما يُحْيِيكم“ قَيْدٌ كاشِفٌ. وفي جامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ عَلى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَقالَ: يا أُبَيُّ وهو يُصَلِّي فالتَفَتَ أُبَيٌّ ولَمْ يَجُبْهُ وصَلّى أُبَيٌّ فَخَفَّفَ ثُمَّ انْصَرَفَ إلى رَسُولِ اللَّهِ فَقالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يا رَسُولَ اللَّهِ. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وعَلَيْكَ السَّلامُ، ما مَنَعَكَ يا أُبَيُّ أنْ تُجِيبَنِي إذْ دَعَوْتُكَ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْتُ في الصَّلاةِ، فَقالَ: أفَلَمْ تَجِدْ فِيما أُوحِيَ إلَيَّ أنِ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذا دَعاكم لِما يُحْيِيكم. قالَ: بَلى ولا أعُودُ إنْ شاءَ اللَّهُ» الحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلّى. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهو مَرْوِيٌّ أيْضًا مِن طَرِيقِ مالِكِ بْنِ أنَسٍ يُرِيدُ حَدِيثَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (وهو عِنْدَ مالِكٍ حَضَرَ مِنهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ) قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ورُوِيَ أنَّهُ وقَعَ نَحْوَهُ مَعَ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمانِ في غَزْوَةِ الخَنْدَقِ، فَتَكُونُ عِدَّةَ قَضايا مُتَماثِلَةٍ. ولا شَكَّ أنَّ القَصْدَ مِنها
صفحة ٣١٤
التَّنْبِيهَ عَلى هَذِهِ الخُصُوصِيَّةِ لِدُعاءِ الرَّسُولِ ﷺ .* * *
﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ وأنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾مُقْتَضى ارْتِباطِ نَظْمِ الكَلامِ يُوجِبُ أنْ يَكُونَ مَضْمُونُ هَذِهِ الجُمْلَةِ مُرْتَبِطًا بِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها فَيَكُونُ عَطْفُها عَلَيْها عَطْفُ التَّكْمِلَةِ عَلى ما تُكَمِّلُهُ، والجُمْلَتانِ مَجْعُولَتانِ آيَةً واحِدَةً في المُصْحَفِ.
وافْتُتِحَتِ الجُمْلَةُ بِ ”اعْلَمُوا“ لِلِاهْتِمامِ بِما تَتَضَمَّنُهُ وحَثِّ المُخاطَبِينَ عَلى التَّأمُّلِ فِيما بَعْدَهُ، وذَلِكَ مِن أسالِيبِ الكَلامِ البَلِيغِ أنْ يُفْتَتَحَ بَعْضُ الجُمَلِ المُشْتَمِلَةِ عَلى خَبَرٍ أوْ طَلَبِ فَهْمٍ بِ ”اعْلَمْ“ أوْ ”تَعَلَّمْ“ لَفْتًا لِذِهْنِ المُخاطَبِ.
وفِيهِ تَعْرِيضٌ غالِبًا بِغَفْلَةِ المُخاطَبِ عَنْ أمْرٍ مُهِمٍّ فَمِنَ المَعْرُوفِ أنَّ المُخْبِرَ أوِ الطّالِبَ ما يُرِيدُ إلّا عِلْمَ المُخاطَبِ، فالتَّصْرِيحُ بِالفِعْلِ الدّالِّ عَلى طَلَبِ العِلْمِ مَقْصُودٌ لِلِاهْتِمامِ، قالَ - تَعالى - اعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ وأنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وقالَ: ”﴿اعْلَمُوا أنَّما الحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ ولَهْوٌ﴾ [الحديد: ٢٠]“ الآيَةَ. وقالَ في الآيَةِ بَعْدَ هَذِهِ ”﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ﴾ [الأنفال: ٢٥]“ وفي الحَدِيثِ «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ لِأبِي مَسْعُودٍ الأنْصارِيِّ وقَدْ رَآهُ يَضْرِبُ عَبْدًا لَهُ ”اعْلَمْ أبا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أبا مَسْعُودٍ أنَّ اللَّهَ أقْدَرُ عَلَيْكَ مِنكَ عَلى هَذا الغُلامِ وقَدْ يَفْتَتِحُونَ بِتَعَلَّمْ أوْ تَعَلَّمْنَ» . قالَ زُهَيْرٌ:
قُلْتُ تَعَلَّمْ أنَّ لِلصَّيْدِ غِرَّةً وإلّا تُضَيِّعْها فَإنَّكَ قاتِلُهُ
وقالَ زِيادُ بْنُ سَيّارٍ:تَعَلَّمْ شِفاءَ النَّفْسِ قَهْرُ عَدُوِّهَـا ∗∗∗ فَبالِغْ بِلُطْفٍ في التَّحَيُّلِ والمَكْرِ
وقالَ بِشْرُ بْنُ أبِي خازِمٍ:وإلّا فاعْلَمُوا أنّا وأنْتُمُ ∗∗∗ بُغاةٌ ما بَقِينا في شِقاقِ
وأنَّ بَعْدَ هَذا الفِعْلِ مَفْتُوحَةُ الهَمْزَةِ حَيْثُما وقَعَتْ، والمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ يَسُدُّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ عَلِمَ مَعَ إفادَةِ أنَّ التَّأْكِيدَ.والحَوْلُ، ويُقالُ الحُئُولُ: مَنعُ شَيْءٍ اتِّصالًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ أوْ أشْياءَ. قالَ - تَعالى - ﴿وحالَ بَيْنَهُما المَوْجُ﴾ [هود: ٤٣] .
صفحة ٣١٥
وإسْنادُ الحَوْلِ إلى اللَّهِ مَجازٌ عَقْلِيٌّ لِأنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ المَكانِ، والمَعْنى يَحُولُ شَأْنٌ مِن شُئُونِ صِفاتِهِ، وهو تَعَلُّقُ صِفَةِ العِلْمِ بِالِاطِّلاعِ عَلى ما يُضْمِرُهُ المَرْءُ، أوْ تَعَلُّقُ صِفَةِ القُدْرَةِ بِتَنْفِيذِ ما عَزَمَ عَلَيْهِ المَرْءُ أوْ بِصَرْفِهِ عَنْ فِعْلِهِ، ولَيْسَ المُرادُ بِالقَلْبِ هُنا البَضْعَةَ الصَّنَوْبَرِيَّةَ المُسْتَقِرَّةَ في باطِنِ الصَّدْرِ، وهي الآلَةُ الَّتِي تَدْفَعُ الدَّمَ إلى عُرُوقِ الجِسْمِ، بَلِ المُرادُ عَقْلُ المَرْءِ وعَزْمُهُ، وهو إطْلاقٌ شائِعٌ في العَرَبِيَّةِ.فَلَمّا كانَ مَضْمُونُ هَذِهِ الجُمْلَةِ تَكْمِلَةً لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: واعْلَمُوا أنَّ عِلْمَ اللَّهِ يَخْلُصُ بَيْنَ المَرْءِ وعَقْلِهِ خُلُوصَ الحائِلِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَإنَّهُ يَكُونُ شَدِيدَ الِاتِّصالِ بِكِلَيْهِما.
والمُرادُ بِالمَرْءِ عَمَلُهُ وتَصَرُّفاتُهُ الجُسْمانِيَّةُ.
فالمَعْنى أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ عَزْمَ المَرْءِ ونِيَّتَهُ قَبْلَ أنْ تَنْفَعِلَ بِعَزْمِهِ جَوارِحُهُ، فَشُبِّهَ عِلْمُ اللَّهِ بِذَلِكَ بِالحائِلِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ في كَوْنِهِ أشَدَّ اتِّصالًا بِالمَحُولِ عَنْهُ مِن أقْرَبِ الأشْياءِ إلَيْهِ عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿ونَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِن حَبْلِ الوَرِيدِ﴾ [ق: ١٦] .
وجِيءَ بِصِيغَةِ المُضارِعِ“ يَحُولُ ”لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ ذَلِكَ يَتَجَدَّدُ ويَسْتَمِرُّ، وهَذا في مَعْنى قَوْلِهِ - تَعالى -“ ﴿ونَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِن حَبْلِ الوَرِيدِ﴾ [ق: ١٦] ”قالَهُ قَتادَةُ.
والمَقْصُودُ مِن هَذا تَحْذِيرُ المُؤْمِنِينَ مِن كُلِّ خاطِرْ يَخْطُرُ في النُّفُوسِ: مِنَ التَّراخِي في الِاسْتِجابَةِ إلى دَعْوَةِ الرَّسُولِ ﷺ، والتَّنَصُّلِ مِنها، أوِ التَّسَتُّرِ في مُخالَفَتِهِ، وهو مَعْنى قَوْلِهِ“ ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما في أنْفُسِكم فاحْذَرُوهُ﴾ [البقرة: ٢٣٥] ”.
وبِهَذا يَظْهَرُ وقْعُ قَوْلِهِ“ ﴿وأنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ ”عَقِبَهُ، فَكانَ ما قَبْلَهُ تَحْذِيرًا وكانَ هو تَهْدِيدًا. وفي الكَشّافِ، وابْنِ عَطِيَّةَ: قِيلَ إنَّ المُرادَ الحَثُّ عَلى المُبادَرَةِ بِالِامْتِثالِ وعَدَمِ إرْجاءِ ذَلِكَ إلى وقْتٍ آخَرَ خَشْيَةَ أنْ تَعْتَرِضَ المَرْءَ مَوانِعُ مِن تَنْفِيذِ عَزْمِهِ عَلى الطّاعَةِ، أيْ فَيَكُونُ الكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ تَقْدِيرُهُ: إنَّ أجَلَ اللَّهِ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ، أيْ بَيْنَ عَمَلِهِ وعَزْمِهِ. قالَ - تَعالى -“ ﴿وأنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكم مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ أحَدَكُمُ المَوْتُ﴾ [المنافقون: ١٠] ”الآيَةَ.
وهُنالِكَ أقْوالٌ أُخْرى لِلْمُفَسِّرِينَ يَحْتَمِلُها اللَّفْظُ ولا يُساعِدُ عَلَيْها ارْتِباطُ الكَلامِ، والَّذِي حَمَلَنا عَلى تَفْسِيرِ الآيَةِ بِهَذا دُونَ ما عَداهُ أنْ لَيْسَ في جُمْلَةِ
صفحة ٣١٦
“ ﴿أنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ﴾ ”إلّا تَعَلُّقُ شَأْنٍ مِن شُئُونِ اللَّهِ بِالمَرْءِ وقَلْبِهِ أيْ جُثْمانِهِ وعَقْلِهِ دُونَ شَيْءٍ آخَرَ خارِجٍ عَنْهُما، مِثْلَ دَعْوَةِ الإيمانِ ودَعْوَةِ الكُفْرِ، وأنَّ كَلِمَةَ“ بَيْنَ ”تَقْتَضِي شَيْئَيْنِ، فَما يَكُونُ تَحَوُّلٌ إلّا إلى أحَدِهِما لا إلى أمْرٍ آخَرَ خارِجٍ عَنْهُما كالطَّبائِعِ، فَإنَّ ذَلِكَ تَحْوِيلٌ ولَيْسَ حُئُولًا.وجُمْلَةُ“ ﴿وأنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ ”عَطْفٌ عَلى أنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ، والضَّمِيرُ الواقِعُ اسْمُ أنَّ ضَمِيرُ اسْمِ الجَلالَةِ، ولَيْسَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ لِعَدَمِ مُناسَبَتِهِ، ولِإجْراءِ أُسْلُوبِ الكَلامِ عَلى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ“ ﴿أنَّ اللَّهَ يَحُولُ﴾ ”إلَخْ.
وتَقْدِيمُ مُتَعَلِّقِ“ تُحْشَرُونَ " عَلَيْهِ لِإفادَةِ الِاخْتِصاصِ أيْ: إلَيْهِ لا إلى غَيْرِهِ تُحْشَرُونَ، وهَذا الِاخْتِصاصُ لِلْكِنايَةِ عَنِ انْعِدامِ مَلْجَأٍ أوْ مَخْبَأٍ تَلْتَجِئُونَ إلَيْهِ مِنَ الحَشْرِ إلى اللَّهِ، فَكَنّى عَنِ انْتِفاءِ المَكانِ بِانْتِفاءِ مَحْشُورٍ إلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ بِأبْدَعِ أُسْلُوبٍ، ولَيْسَ الِاخْتِصاصُ لِرَدِّ اعْتِقادٍ، لِأنَّ المُخاطَبِينَ بِذَلِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ، فَلا مُقْتَضى لِقَصْرِ الحَشْرِ عَلى الكَوْنِ إلى اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ.