﴿وأعِدُّوا لَهم ما اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ ومِن رِباطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكم وآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهم وما تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ في سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكم وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ .

عُطِفَتْ جُمْلَةُ ”وأعِدُّوا“ عَلى جُمْلَةِ ﴿فَإمّا تَثْقَفَنَّهم في الحَرْبِ﴾ [الأنفال: ٥٧] أوْ عَلى جُمْلَةِ ﴿ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا﴾ [الأنفال: ٥٩] فَتُفِيدُ مَفادَ الِاحْتِراسِ عَنْ مُفادِها؛ لِأنَّ قَوْلَهُ:

صفحة ٥٥

﴿ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا﴾ [الأنفال: ٥٩] يُفِيدُ تَوْهِينًا لِشَأْنِ المُشْرِكِينَ، فَتَعْقِيبُهُ بِالأمْرِ بِالِاسْتِعْدادِ لَهم: لِئَلّا يَحْسَبَ المُسْلِمُونَ أنَّ المُشْرِكِينَ قَدْ صارُوا في مُكْنَتِهِمْ، ويَلْزَمُ مِن ذَلِكَ الِاحْتِراسِ أنَّ الِاسْتِعْدادَ لَهم هو سَبَبُ جَعْلِ اللَّهِ إيّاهم لا يُعْجِزُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ؛ لِأنَّ اللَّهَ هَيَّأ أسْبابَ اسْتِئْصالِهِمْ ظاهِرَها وباطِنَها.

والإعْدادُ: التَّهْيِئَةُ والإحْضارُ، ودَخَلَ في ”ما اسْتَطَعْتُمْ“ كُلُّ ما يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ النّاسِ اتِّخاذُهُ مِنَ العُدَّةِ.

والخِطابُ لِجَماعَةِ المُسْلِمِينَ ووُلاةِ الأمْرِ مِنهم؛ لِأنَّ ما يُرادُ مِنَ الجَماعَةِ إنَّما يَقُومُ بِتَنْفِيذِهِ وُلاةُ الأُمُورِ الَّذِينَ هم وُكَلاءُ الأُمَّةِ عَلى مَصالِحِها.

والقُوَّةُ كَمالُ صَلاحِيَةِ الأعْضاءِ لِعَمَلِها وقَدْ تَقَدَّمَتْ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقابِ﴾ [الأنفال: ٥٢] وعِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَخُذْها بِقُوَّةٍ﴾ [الأعراف: ١٤٥] . وتُطْلَقُ القُوَّةُ مَجازًا عَلى شِدَّةِ تَأْثِيرِ شَيْءِ ذِي أثَرٍ، وتُطْلَقُ أيْضًا عَلى سَبَبِ شِدَّةِ التَّأْثِيرِ، فَقُوَّةُ الجَيْشِ شِدَّةُ وقْعِهِ عَلى العَدُوِّ، وقُوَّتُهُ أيْضًا سِلاحُهُ وعَتادُهُ، وهو المُرادُ هُنا، فَهو مَجازٌ مُرْسَلٌ بِواسِطَتَيْنِ فاتِّخاذُ السُّيُوفِ والرِّماحِ والأقْواسِ والنِّبالِ مِنَ القُوَّةِ في جُيُوشِ العُصُورِ الماضِيَةِ، واتِّخاذُ الدَّبّاباتِ والمَدافِعِ والطَّيّاراتِ والصَّوارِيخِ مِنَ القُوَّةِ في جُيُوشِ عَصْرِنا. وبِهَذا الِاعْتِبارِ يُفَسَّرُ ما رَوى مُسْلِمٌ والتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ عَلى المِنبَرِ ثُمَّ قالَ: «ألا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، قالَها ثَلاثًا»، أيْ: أكْمَلُ أفْرادِ القُوَّةِ آلَةُ الرَّمْيِ، أيْ: في ذَلِكَ العَصْرِ. ولَيْسَ المُرادُ حَصْرَ القُوَّةِ في آلَةِ الرَّمْيِ.

وعَطْفُ ”﴿رِباطِ الخَيْلِ﴾“ عَلى القُوَّةِ مِن عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ، لِلِاهْتِمامِ بِذَلِكَ الخاصِّ.

(والرِّباطُ) صِيغَةُ مُفاعَلَةٍ أُتِيَ بِها هُنا لِلْمُبالَغَةِ لِتَدُلَّ عَلى قَصْدِ الكَثْرَةِ مِن رَبْطِ الخَيْلِ لِلْغَزْوِ، أيِ احْتِباسُها ورَبْطُها انْتِظارًا لِلْغَزْوِ عَلَيْها، كَقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «مَنِ ارْتَبَطَ فَرَسًا في سَبِيلِ اللَّهِ كانَ رَوَثُها وبَوْلُها حَسَناتٍ لَهُ» الحَدِيثَ. يُقالُ: رَبَطَ الفَرَسَ إذا شَدَّهُ في مَكانِ حِفْظِهِ، وقَدْ سَمَّوُا المَكانَ الَّذِي تُرْتَبَطُ فِيهِ الخَيْلُ

صفحة ٥٦

رِباطًا؛ لِأنَّهم كانُوا يَحْرُسُونَ الثُّغُورَ المَخُوفَةَ راكِبِينَ عَلى أفْراسِهِمْ، كَما وصَفَ ذَلِكَ لَبِيدٌ في قَوْلِهِ:

ولَقَدْ حَمَيْتُ الحَيَّ تَحْمُلُ شِكَّتِي فُرُطٌ وِشاحِيَ إنْ رَكَبْتُ زِمامُها

إلى أنْ قالَ:

حَتّى إذا ألْقَتْ يَدًا في كَـافِـرٍ ∗∗∗ وأجَنَّ عَوْراتِ الثُّغُورِ ظَلامُها

أسْهَلْتُ وانْتَصَبَتْ كَجِذْعِ مُنِيفَةٍ ∗∗∗ جَرْداءَ يَحْصَرُ دُونَها جُرّامُها

ثُمَّ أُطْلِقَ الرِّباطُ عَلى مَحْرَسِ الثَّغْرِ البَحْرِيِّ، وبِهِ سَمَّوْا رِباطَ دِمْياطَ بِمِصْرَ، ورِباطَ المُنَسْتِيرِ بِتُونُسَ، ورِباطَ سَلا بِالمَغْرِبِ الأقْصى.

وقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِن هَذا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وصابِرُوا ورابِطُوا﴾ [آل عمران: ٢٠٠] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.

وجُمْلَةُ ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ﴾ إمّا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا، ناشِئًا عَنْ تَخْصِيصِ الرِّباطِ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذِكْرِ ما يَعُمُّهُ، وهو القُوَّةُ، وإمّا في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ ”وأعِدُّوا“

وعَدُوُّ اللَّهِ وعَدُوُّهم: هُمُ المُشْرِكُونَ فَكانَ تَعْرِيفُهم بِالإضافَةِ لِأنَّها أخْصَرُ طَرِيقٍ لِتَعْرِيفِهِمْ، ولِما تَتَضَمَّنُهُ مِن وجْهِ قِتالِهِمْ وإرْهابِهِمْ، ومِن ذَمِّهِمْ، أنْ كانُوا أعْداءَ رَبِّهِمْ، ومِن تَحْرِيضِ المُسْلِمِينَ عَلى قِتالِهِمْ إذْ عُدُّوا أعْداءً لَهم، فَهم أعْداءُ اللَّهِ لِأنَّهم أعْداءُ تَوْحِيدِهِ وهم أعْداءُ رَسُولِهِ ﷺ لِأنَّهم صارَحُوهُ بِالعَداوَةِ، وهم أعْداءُ المُسْلِمِينَ لِأنَّ المُسْلِمِينَ أوْلِياءُ دِينِ اللَّهِ والقائِمُونَ بِهِ وأنْصارُهُ. فَعَطْفُ ”وعَدُوَّكم“ عَلى ﴿عَدُوَّ اللَّهِ﴾ مِن عَطْفِ صِفَةِ مَوْصُوفٍ واحِدٍ مِثْلَ قَوْلِ الشّاعِرِ، وهو مِن شَواهِدِ أهْلِ العَرَبِيَّةِ:

إلى المَلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُما ∗∗∗ مِ ولَيْثِ الكَتِيبَةِ في المُزْدَحَمِ

والإرْهابُ جَعْلُ الغَيْرِ راهِبًا، أيْ: خائِفًا، فَإنَّ العَدُوَّ إذا عَلِمَ اسْتِعْدادَ عَدُوِّهِ لِقِتالِهِ خافَهُ، ولَمْ يَجْرَأْ عَلَيْهِ، فَكانَ ذَلِكَ هَناءً لِلْمُسْلِمِينَ وأمْنًا مِن أنْ يَغْزُوَهم أعْداؤُهم،

صفحة ٥٧

فَيَكُونُ الغَزْوُ بِأيْدِيهِمْ: يَغْزُونَ الأعْداءَ مَتى أرادُوا، وكانَ الحالُ أوْفَقَ لَهم، وأيْضًا إذا رَهَبُوهم تَجَنَّبُوا إعانَةَ الأعْداءِ عَلَيْهِمْ.

والمُرادُ بِآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ أعْداءٌ لا يَعْرِفُهُمُ المُسْلِمُونَ بِالتَّعْيِينِ ولا بِالإجْمالِ، وهم مَن كانَ يُضْمِرُ لِلْمُسْلِمِينَ عَداوَةً وكَيْدًا، ويَتَرَبَّصُ بِهِمُ الدَّوائِرَ، مِثْلَ بَعْضِ القَبائِلِ. فَقَوْلُهُ: لا تَعْلَمُونَهم أيْ لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَهم قَبْلَ هَذا الإعْلامِ، وقَدْ عَلِمْتُمُوهُمُ الآنَ إجْمالًا، أوْ أُرِيدَ: لا تَعْلَمُونَهم بِالتَّفْصِيلِ ولَكِنَّكم تَعْلَمُونَ وجُودَهم إجْمالًا مِثْلَ المُنافِقِينَ، فالعِلْمُ بِمَعْنى المَعْرِفَةِ. ولِهَذا نَصَبَ مَفْعُولًا واحِدًا.

وقَوْلُهُ: (مِن دُونِهِمْ) مُؤْذِنٌ بِأنَّهم قَبائِلُ مِنَ العَرَبِ كانُوا يَنْتَظِرُونَ ما تَنْكَشِفُ عَنْهُ عاقِبَةُ المُشْرِكِينَ مِن أهْلِ مَكَّةَ مِن حَرْبِهِمْ مَعَ المُسْلِمِينَ، فَقَدْ كانَ ذَلِكَ دَأْبَ كَثِيرٍ مِنَ القَبائِلِ كَما ورَدَ في السِّيرَةِ، ولِذَلِكَ ذُكِرَ مِن دُونِهِمْ بِمَعْنى: مِن جِهاتٍ أُخْرى؛ لِأنَّ أصْلَ (دُونَ) أنَّها لِلْمَكانِ المُخالِفِ، وهَذا أوْلى مِن حَمْلِهِ عَلى مُطْلَقِ المُغايَرَةِ الَّتِي هي مِن إطْلاقاتِ كَلِمَةِ (دُونَ) لِأنَّ ذَلِكَ المَعْنى قَدْ أغْنى عَنْهُ وصْفُهم بِـ ”آخَرِينَ“

وجُمْلَةُ ﴿اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لِهَؤُلاءِ الآخَرِينَ، فالخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْناهُ الكِنائِيِّ، وهو تَعَقُّبُهم والإغْراءُ بِهِمْ، وتَعْرِيضٌ بِالِامْتِنانِ عَلى المُسْلِمِينَ بِأنَّهم بِمَحَلِّ عِنايَةِ اللَّهِ، فَهو يُحْصِي أعْداءَهم ويُنَبِّهُهم إلَيْهِمْ.

وتَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ عَلى الخَبَرِ الفِعْلِيِّ: لِلتَّقَوِّي، أيْ: تَحْقِيقِ الخَبَرِ وتَأْكِيدِهِ، والمَقْصُودُ تَأْكِيدُ لازِمِ مَعْناهُ، أمّا أصْلُ المَعْنى فَلا يَحْتاجُ إلى التَّأْكِيدِ إذْ لا يُنْكِرُهُ أحَدٌ، وأمّا حَمْلُ التَّقْدِيمِ هُنا عَلى إرادَةِ الِاخْتِصاصِ فَلا يَحْسُنُ، لِلِاسْتِغْناءِ عَنْ طَرِيقِ القَصْرِ بِجُمْلَةِ النَّفْيِ في قَوْلِهِ: ﴿لا تَعْلَمُونَهُمُ﴾ فَلَوْ قِيلَ: ويَعْلَمُهُمُ اللَّهُ لَحَصَلَ مَعْنى القَصْرِ مِن مَجْمُوعِ الجُمْلَتَيْنِ.

وإذْ قَدْ كانَ إعْدادُ القُوَّةِ يَسْتَدْعِي إنْفاقًا، وكانَتِ النُّفُوسُ شَحِيحَةً بِالمالِ، تَكَفَّلَ اللَّهُ لِلْمُنْفِقِينَ في سَبِيلِهِ بِإخْلافِ ما أنْفَقُوهُ والإثابَةِ عَلَيْهِ، فَقالَ ﴿وما تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ في سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ﴾ . فَسَبِيلُ اللَّهِ هو الجِهادُ لِإعْلاءِ كَلِمَتِهِ.

صفحة ٥٨

والتَّوْفِيَةُ: أداءُ الحَقِّ كامِلًا، جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الإنْفاقَ كالقَرْضِ لِلَّهِ، وجَعَلَ عَلى الإنْفاقِ جَزاءً، فَسَمّى جَزاءَهُ تَوْفِيَةً عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِعارَةِ المَكْنِيَّةِ، وتَدُلُّ التَّوْفِيَةُ عَلى أنَّهُ يَشْمَلُ الأجْرَ في الدُّنْيا مَعَ أجْرِ الآخِرَةِ، ونُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ.

وتَعْدِيَةُ التَّوْفِيَةِ إلى الإنْفاقِ بِطَرِيقِ بِناءِ الفِعْلِ لِلنّائِبِ، وإنَّما الَّذِي يُوَفّى هو الجَزاءُ عَلى الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ، لِلْإشارَةِ إلى أنَّ المُوَفّى هو الثَّوابُ. والتَّوْفِيَةُ تَكُونُ عَلى قَدْرِ الإنْفاقِ وأنَّها مِثْلُهُ، كَما يُقالُ: وفّاهُ دَيْنَهُ، وإنَّما وفّاهُ مُماثِلًا لِدَيْنِهِ. وقَرِيبٌ مِنهُ قَوْلُهم: قَضى صَلاةَ الظُّهْرِ، وإنَّما قَضى صَلاةً بِمِقْدارِها، فالإسْنادُ: إمّا مَجازٌ عَقْلِيٌّ، أوْ هو مَجازٌ بِالحَذْفِ.

والظُّلْمُ: هُنا مُسْتَعْمَلٌ في النَّقْصِ مِنَ الحَقِّ؛ لِأنَّ نَقْصَ الحَقِّ ظُلْمٌ، وتَسْمِيَةُ النَّقْصِ مِنَ الحَقِّ ظُلْمًا حَقِيقَةٌ. ولَيْسَ هو كالَّذِي في قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿كِلْتا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ولَمْ تَظْلِمْ مِنهُ شَيْئًا﴾ [الكهف: ٣٣]