صفحة ٨٩

﴿والَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وجاهَدُوا في سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ آوَوْا ونَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهم مَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ .

الأظْهَرُ أنَّ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٣]، وجُمْلَةِ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وهاجَرُوا﴾ [الأنفال: ٧٥]: الآيَةُ، والواوُ اعْتِراضِيَّةٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالمُهاجِرِينَ والأنْصارِ، وبَيانِ جَزائِهِمْ وثَوابِهِمْ، بَعْدَ بَيانِ أحْكامِ ولايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وجاهَدُوا بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٧٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٢] فَلَيْسَتْ هَذِهِ تَكْرِيرًا لِلْأُولى، وإنْ تَشابَهَتْ ألْفاظُها: فالأُولى لِبَيانِ ولايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وهَذِهِ وارِدَةٌ لِلثَّناءِ عَلَيْهِمْ والشَّهادَةِ لَهم بِصِدْقِ الإيمانِ مَعَ وعْدِهِمْ بِالجَزاءِ.

وجِيءَ بِاسْمِ الإشارَةِ في قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ﴾ [الأنفال: ٤] لِمِثْلِ الغَرَضِ الَّذِي جِيءَ بِهِ لِأجْلِهِ في قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٢] كَما تَقَدَّمَ.

وهَذِهِ الصِّيغَةُ صِيغَةُ قَصْرٍ، أيْ قَصْرِ الإيمانِ عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُهاجِرُوا، والقَصْرُ هُنا مُقَيَّدٌ بِالحالِ في قَوْلِهِ: حَقًّا. فَقَوْلُهُ: ”حَقًّا“ حالٌ مِنَ المُؤْمِنُونَ وهو مَصْدَرٌ جُعِلَ مِن صِفَتِهِمْ، فالمَعْنى: أنَّهم حاقُّونَ، أيْ مُحَقِّقُونَ لِإيمانِهِمْ بِأنْ عَضَّدُوهُ بِالهِجْرَةِ مِن دارِ الكُفْرِ، ولَيْسَ الحَقُّ هُنا بِمَعْنى المُقابِلِ لِلْباطِلِ، حَتّى يَكُونَ إيمانُ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُهاجِرُوا باطِلًا؛ لِأنَّ قَرِينَةَ قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهاجِرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] مانِعَةٌ مِن ذَلِكَ، إذْ قَدْ أثْبَتَ لَهُمُ الإيمانَ ونَفى عَنْهُمُ اسْتِحْقاقَ ولايَةِ المُؤْمِنِينَ.

والرِّزْقُ الكَرِيمُ هو الَّذِي لا يُخالِطُ النَّفْعَ بِهِ ضُرٌّ ولا نَكَدٌ، فَهو نَفْعٌ مَحْضٌ لا كَدَرَ فِيهِ.