﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وعِنْدَ رَسُولِهِ إلّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ فَما اسْتَقامُوا لَكم فاسْتَقِيمُوا لَهم إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ، نَشَأ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [التوبة: ١] ثُمَّ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿أنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٣] وعَنْ قَوْلِهِ: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٥] الَّتِي كانَتْ تَدَرُّجًا في إبْطالِ ما بَيْنَهم وبَيْنَ المُسْلِمِينَ مِن عُهُودٍ سابِقَةٍ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ سُؤالًا في نُفُوسِ السّامِعِينَ مِنَ المُسْلِمِينَ

صفحة ١٢١

الَّذِينَ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلى دَخِيلَةِ الأمْرِ، فَلَعَلَّ بَعْضَ قَبائِلِ العَرَبِ مِنَ المُشْرِكِينَ يَتَعَجَّبُ مِن هَذِهِ البَراءَةِ، ويَسْألُ عَنْ سَبَبِها، وكَيْفَ أُنْهِيَتِ العُهُودُ وأُعْلِنْتِ الحَرْبُ، فَكانَ المَقامُ مَقامَ بَيانِ سَبَبِ ذَلِكَ، وأنَّهُ أمْرانِ: بُعْدُ ما بَيْنَ العَقائِدِ، وسَبْقُ الغَدْرِ.

والِاسْتِفْهامُ بِـ ”كَيْفَ“ إنْكارِيٌّ؛ إنْكارًا لِحالَةِ كِيانِ العَهْدِ بَيْنَ المُشْرِكِينَ وأهْلِ الإسْلامِ، أيْ: دَوامُ العَهْدِ في المُسْتَقْبَلِ مَعَ الَّذِينَ عاهَدُوهم يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ وما بَعْدَهُ فَفِعْلَ ”يَكُونُ“ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنى الدَّوامِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ﴾ [النساء: ١٣٦] كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ ﴿فَما اسْتَقامُوا لَكم فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ . ولَيْسَ ذَلِكَ إنْكارًا عَلى وُقُوعِ العَهْدِ، فَإنَّ العَهْدَ قَدِ انْعَقَدَ بِإذْنٍ مِنَ اللَّهِ، وسَمّاهُ اللَّهُ فَتْحًا في قَوْلِهِ: ﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح: ١] وسُمِّيَ رِضا المُؤْمِنِينَ بِهِ يَوْمَئِذٍ سَكِينَةً في قَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ﴾ [الفتح: ٤]

والمَعْنى: أنَّ الشَّأْنَ أنْ لا يَكُونَ لَكم عَهْدٌ مَعَ أهْلِ الشِّرْكِ، لِلْبَوْنِ العَظِيمِ بَيْنَ دِينِ التَّوْحِيدِ ودِينِ الشِّرْكِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ اتِّفاقُ أهْلَيْهِما، أيْ فَما كانَ العَهْدُ المُنْعَقِدُ مَعَهم إلّا أمْرًا مُوَقَّتًا بِمَصْلَحَةٍ. فَفي وصْفِهِمْ بِالمُشْرِكِينَ إيماءٌ إلى عِلَّةِ الإنْكارِ عَلى دَوامِ العَهْدِ مَعَهم.

وهَذا يُؤَيِّدُ ما فَسَّرْنا بِهِ وجْهَ إضافَةِ البَراءَةِ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ، وإسْنادَ العَهْدِ إلى ضَمِيرِ المُسْلِمِينَ، في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ﴾ [التوبة: ١]

ومَعْنى ”عِنْدَ“ الِاسْتِقْرارُ المَجازِيُّ، بِمَعْنى الدَّوامِ أيْ إنَّما هو عَهْدٌ مُوَقَّتٌ، وقَدْ كانَتْ قُرَيْشٌ نَكَثُوا عَهْدَهُمُ الَّذِي عاهَدُوهُ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ، إذْ أعانُوا بَنِي بَكْرٍ بِالسِّلاحِ والرِّجالِ عَلى خُزاعَةَ، وكانَتْ خُزاعَةُ داخِلَةً في عَهْدِ النَّبِيءِ ﷺ، وكانَ ذَلِكَ سَبَبَ التَّجْهِيزِ لِغَزْوَةِ فَتْحِ مَكَّةَ.

واسْتِثْناءُ ﴿إلّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ﴾ [التوبة: ٤] مِن مَعْنى النَّفْيِ الَّذِي اسْتُعْمِلَ فِيهِ الِاسْتِفْهامُ بِـ ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ﴾ أيْ لا يَكُونُ عَهْدُ المُشْرِكِينَ إلّا المُشْرِكِينَ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ.

والَّذِينَ عاهَدُوهم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ: هم بَنُو ضَمْرَةَ، وبَنُو جُذَيْمَةَ بْنِ الدِّيلِ، مِن كِنانَةَ؛ وبَنُو بَكْرٍ مِن كِنانَةَ.

صفحة ١٢٢

فالمَوْصُولُ هُنا لِلْعَهْدِ، وهم أخَصُّ مِنَ الَّذِينَ مَضى فِيهِمْ قَوْلُهُ: ﴿إلّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكم شَيْئًا﴾ [التوبة: ٤]

والمَقْصُودُ مِن تَخْصِيصِهِمْ بِالذِّكْرِ: التَّنْوِيهُ بِخَصْلَةِ وفائِهِمْ بِما عاهَدُوا عَلَيْهِ. ويَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ هَؤُلاءِ عاهَدُوا النَّبِيءَ ﷺ في عُمْرَةِ القَضاءِ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ، ودَخَلُوا في الصُّلْحِ الَّذِي عَقَدَهُ مَعَ قُرَيْشٍ بِخُصُوصِهِمْ، زِيادَةً عَلى دُخُولِهِمْ في الصُّلْحِ الأعَمِّ، ولَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَهم، ولا ظاهَرُوا عَدُوًّا عَلى المُسْلِمِينَ، إلى وقْتِ نُزُولِ ”بَراءَةٌ“ . عَلى أنَّ مُعاهَدَتَهم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ أبْعَدُ عَنْ مَظِنَّةِ النَّكْثِ لِأنَّ المُعاهَدَةَ عِنْدَهُ أوْقَعُ في نُفُوسِ المُشْرِكِينَ مِنَ الحَلِفِ المُجَرَّدِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّهم لا أيْمانَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ١٢]

ولَيْسَ المُرادُ كُلَّ مَن عاهَدَ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ كَما قَدْ يَتَوَهَّمُهُ المُتَوَهِّمُ؛ لِأنَّ النَّبِيءَ ﷺ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا بِأنْ يُعاهِدَ فَرِيقًا آخَرَ مِنهم.

وقَوْلُهُ: ﴿فَما اسْتَقامُوا لَكم فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ تَفْرِيعٌ عَلى الِاسْتِثْناءِ. فالتَّقْدِيرُ إلّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ فاسْتَقِيمُوا لَهم ما اسْتَقامُوا لَكم، أيْ ما دامُوا مُسْتَقِيمِينَ لَكم. والظّاهِرُ أنَّ اسْتِثْناءَ هَؤُلاءِ لِأنَّ لِعَهْدِهِمْ حُرْمَةً زائِدَةً لِوُقُوعِهِ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ حَوْلَ الكَعْبَةِ.

و”ما“ ظَرْفِيَّةٌ مُضَمَّنَةٌ مَعْنى الشَّرْطِ، والفاءُ الدّاخِلَةُ عَلَيْها فاءُ التَّفْرِيعِ. والفاءُ الواقِعَةُ في قَوْلِهِ: ﴿فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ فاءُ جَوابِ الشَّرْطِ، وأصْلُ ذَلِكَ أنَّ الظَّرْفَ والمَجْرُورَ إذا قُدِّمَ عَلى مُتَعَلِّقِهِ قَدْ يُشْرَبُ مَعْنى الشَّرْطِ فَتَدْخُلُ الفاءُ في جَوابِهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنافَسِ المُتَنافِسُونَ﴾ [المطففين: ٢٦] لِوُجُوبِ جَعْلِ الفاءِ غَيْرَ تَفْرِيعِيَّةٍ؛ لِأنَّهُ قَدْ سَبَقَها العَطْفُ بِالواوِ، وقَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ: ”«كَما تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكم» “ بِجَزْمِ الفِعْلَيْنِ، وقَوْلُهُ لِمَن سَألَهُ أنْ يُجاهِدَ وسَألَهُ الرَّسُولُ «ألَكَ أبَوانِ ؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ: فَفِيهِما فَجاهِدْ» في رِوايَتِهِ بِفاءَيْنِ.

والِاسْتِقامَةُ حَقِيقَتُها عَدَمُ الِاعْوِجاجِ، والسِّينُ والتّاءُ لِلْمُبالَغَةِ مِثْلَ ”اسْتَجابَ“ و”اسْتَحَبَّ“، وإذا قامَ الشَّيْءُ انْطَلَقَتْ قامَتُهُ ولَمْ يَكُنْ فِيهِ اعْوِجاجٌ، وهي هُنا مُسْتَعارَةٌ

صفحة ١٢٣

لِحُسْنِ المُعامَلَةِ وتَرْكِ القِتالِ؛ لِأنَّ سُوءَ المُعامَلَةِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِالتِواءُ والِاعْوِجاجُ، فَكَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلى ضِدِّهِ الِاسْتِقامَةُ.

وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾ [التوبة: ٤] تَعْلِيلٌ لِلْأمْرِ بِالِاسْتِقامَةِ. ومَوْقِعُ ”إنَّ“ أوَّلَها لِلِاهْتِمامِ. وهو مُؤْذِنٌ بِالتَّعْلِيلِ لِأنَّ ”إنَّ“ في مِثْلِ هَذا تُغْنِي غَناءَ ”فاءٍ“ وقَدْ أنْبَأ ذَلِكَ التَّعْلِيلُ أنَّ الِاسْتِقامَةَ لَهم مِنَ التَّقْوى وإلّا لَمْ تَكُنْ مُناسِبَةً لِلْإخْبارِ بِأنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ. عَقِبَ الأمْرِ بِالِاسْتِقامَةِ لَهم، وهَذا مِنَ الإيجازِ. ولِأنَّ في الِاسْتِقامَةِ لَهم حِفْظًا لِلْعَهْدِ الَّذِي هو مِن قَبِيلِ اليَمِينِ.