Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجِّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرامِ كَمَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وجاهَدَ في سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّها خِطابٌ لِقَوْمٍ سَوَّوْا بَيْنَ سِقايَةِ الحاجِّ وعِمارَةِ المَسْجِدِ الحَرامِ، وبَيْنَ الجِهادِ والهِجْرَةِ، في أنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِن عَمَلِ البِرِّ، فَتُؤْذِنُ بِأنَّها خِطابٌ لِقَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قَعَدُوا عَنِ الهِجْرَةِ والجِهادِ، بِعِلَّةِ اجْتِزائِهِمْ بِالسِّقايَةِ والعِمارَةِ. ومُناسَبَتُها
صفحة ١٤٣
لِلْآياتِ الَّتِي قَبْلَها: أنَّهُ لَمّا وقَعَ الكَلامُ عَلى أنَّ المُؤْمِنِينَ هُمُ الأحِقّاءُ بِعِمارَةِ المَسْجِدِ الحَرامِ مِنَ المُشْرِكِينَ دَلَّ ذَلِكَ الكَلامُ عَلى أنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ لا يَحِقُّ لِغَيْرِ المُسْلِمِ أنْ يُباشِرَ فِيهِ عَمَلا مِنَ الأعْمالِ الخاصَّةِ بِهِ، فَكانَ ذَلِكَ مَثارَ ظَنٍّ بِأنَّ القِيامَ بِشَعائِرِ المَسْجِدِ الحَرامِ مُساوٍ لِلْقِيامِ بِأفْضَلِ أعْمالِ الإسْلامِ.وأحْسَنُ ما رُوِيَ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ: ما رَواهُ الطَّبَرَيُّ، والواحِدِيُّ، عَنِ النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ، قالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في نَفَرٍ مِن أصْحابِهِ فَقالَ رَجُلٌ مِنهم ”ما أُبالِي أنْ لا أعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الإسْلامِ إلّا أنْ أسْقِيَ الحاجَّ“؛ وقالَ آخَرُ ”بَلْ عِمارَةُ المَسْجِدِ الحَرامِ“ وقالَ آخَرُ ”بَلِ الجِهادُ في سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِمّا قُلْتُمْ“ فَزَجَرَهم عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ وقالَ ”لا تَرْفَعُوا أصْواتَكم عِنْدَ مِنبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وذَلِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ ولَكِنْ إذا صَلَّيْتُ الجُمُعَةَ دَخَلْتُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فاسْتَفْتَيْتُهُ فِيما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ قالَ: فَأنْزَلَ اللَّهُ - تَعالى: ﴿أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجِّ﴾ إلى ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾
وقَدْ رُوِيَ أنَّهُ سَرى هَذا التَّوَهُّمُ إلى بَعْضِ المُسْلِمِينَ، فَرُوِيَ أنَّ العَبّاسَ رامَ أنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ ويَتْرُكَ الهِجْرَةَ لِأجْلِ الشَّغْلِ بِسِقايَةِ الحاجِّ والزّائِرِ؛ وأنَّ عُثْمانَ بْنَ طَلْحَةَ رامَ مِثْلَ ذَلِكَ، لِلْقِيامِ بِحِجابَةِ البَيْتِ. ورَوى الطَّبَرَيُّ، والواحِدِيُّ: أنَّ مُماراةً جَرَتْ بَيْنَ العَبّاسِ وعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ بِبَدْرٍ، وأنَّ عَلِيًّا عَيَّرَ العَبّاسَ بِالكُفْرِ وقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، فَقالَ العَبّاسُ:“ ما لَكم لا تَذْكُرُونَ مَحاسِنَنا إنّا لَنَعْمُرُ مَسْجِدَ اللَّهِ ونَحْجِبُ الكَعْبَةَ ونَسَقِي الحاجَّ ”فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجِّ﴾ الآيَةَ.
والِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ.
و(السِّقايَةُ) صِيغَةٌ لِلصِّناعَةِ، أيْ صِناعَةُ السَّقْيِ، وهي السَّقْيُ مِن ماءِ زَمْزَمَ، ولِذَلِكَ أُضِيفَتِ السِّقايَةُ إلى الحاجِّ.
وكَذَلِكَ (العِمارَةُ) صِناعَةُ التَّعْمِيرِ، أيِ القِيامُ عَلى تَعْمِيرِ شَيْءٍ، بِالإصْلاحِ والحِراسَةِ ونَحْوِ ذَلِكَ، وهي، هُنا: غَيْرُ ما في قَوْلِهِ: ﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ﴾ [التوبة: ١٧] وقَوْلِهِ: ﴿إنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ﴾ [التوبة: ١٨] وأُضِيفَتْ إلى المَسْجِدِ الحَرامِ لِأنَّها عَمَلٌ في ذاتِ المَسْجِدِ.
وتَعْرِيفُ الحاجِّ تَعْرِيفُ الجِنْسِ.
صفحة ١٤٤
وقَدْ كانَتْ سِقايَةُ الحاجِّ وعِمارَةُ المَسْجِدِ الحَرامِ مِن أعْظَمِ مَناصِبِ قُرَيْشٍ في الجاهِلِيَّةِ، والمَناصِبُ عَشْرَةٌ، وتُسَمّى المَآثِرَ فَكانَتِ السِّقايَةُ لِبَنِي هاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنافِ بْنِ قُصَيٍّ وجاءَ الإسْلامُ وهي لِلْعَبّاسِ بْنِ عَبَدِ المُطَّلِبِ، وكانَتْ عِمارَةُ المَسْجِدِ، وهي السِّدانَةُ، وتُسَمّى الحِجابَةُ، لِبَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيٍّ وجاءَ الإسْلامُ وهي لِعُثْمانَ بْنِ طَلْحَةَ.وكانَتْ لَهم مَناصِبُ أُخْرى ثَمانِيَةً أبْطَلَها الإسْلامُ رَأيْتُها بِخَطِّ جَدِّي العَلّامَةِ الوَزِيرِ وهي: الدِّياتُ والحَمالاتُ، السِّفارَةُ، الرّايَةُ، الرِّفادَةُ، المَشُورَةُ، الأعِنَّةُ والقُبَّةُ، الحُكُومَةُ وأمْوالُ الآلِهَةِ، الأيْسارُ.
فَأمّا الدِّياتُ والحَمالاتُ: فَجَمْعُ دِيَةٍ وهي عِوَضُ دَمِ القَتِيلِ خَطَأً أوْ عَمْدًا إذا صُولِحَ عَلَيْهِ؛ وجَمْعُ حَمالَةَ - بِفَتْحِ الحاءِ المُهْمَلَةِ - وهي الغَرامَةُ الَّتِي يَحْمِلُها قَوْمٌ عَنْ قَوْمٍ، وكانَتْ لِبَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ. ومُرَّةُ جَدُّ قُصَيِّ، وجاءَ الإسْلامُ وهي بِيَدِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.
وأمّا السِّفارَةُ - بِكَسْرِ السِّينِ وفَتْحِها - فَهي السَّعْيُ بِالصُّلْحِ بَيْنَ القَبائِلِ والقائِمُ بِها يُسَمّى سَفِيرًا. وكانَتْ لِبَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ أبْناءُ عَمٍّ لِقُصَيٍّ وجاءَ الإسْلامُ وهي بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ.
وأمّا الرّايَةُ، وتُسَمّى: العُقابُ - بِضَمِّ العَيْنِ - لِأنَّها تَخْفُقُ فَوْقَ الجَيْشِ كالعُقابِ، فَهي رايَةُ جَيْشِ قُرَيْشٍ، وكانَتْ لِبَنِي أُمَيَّةَ، وجاءَ الإسْلامُ وهي بِيَدِ أبِي سُفْيانَ بْنِ حَرْبٍ.
وأمّا الرِّفادَةُ: فَهي أمْوالٌ تُخْرِجُها قُرَيْشٌ إكْرامًا لِلْحَجِيجِ فَيُطْعِمُونَهم جَمِيعَ أيّامِ المَوْسِمِ يَشْتَرُونَ الجُزُرَ والطَّعامَ والزَّبِيبَ - لِلنَّبِيذِ - وكانَتْ لِبَنِي نَوْفَلَ بْنِ عَبْدِ مَنافٍ، وجاءَ الإسْلامُ وهي بِيَدِ الحارِثِ بْنِ عامِرِ بْنِ نَوْفَلَ.
وأمّا المَشُورَةُ فَهي وِلايَةُ دارِ النَّدْوَةِ وكانَتْ لِبَنِي أسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزّى بْنِ قُصَيٍّ. وجاءَ الإسْلامُ وهي بِيَدِ زَيْدِ بْنِ زَمْعَةَ.
صفحة ١٤٥
وأمّا الأعِنَّةُ والقُبَّةُ فَقُبَّةٌ يَضْرِبُونَها يَجْتَمِعُونَ إلَيْها عِنْدَ تَجْهِيزِ الجَيْشِ وسُمِّيَتِ الأعِنَّةَ وكانَتْ لِبَنِي مَخْزُومٍ. وهم أبْناءُ عَمِّ قُصَيٍّ، وجاءَ الإسْلامُ وهي بِيَدِ خالِدِ بْنِ الوَلِيدِ.وأمّا الحُكُومَةُ وأمْوالُ الآلِهَةِ - ولَمْ أقِفْ عَلى حَقِيقَتِها - فَأحْسَبُ أنَّ تَسْمِيَتَها الحُكُومَةَ لِأنَّ المالَ المُتَجَمِّعَ بِها هو ما يُحَصَّلُ مِن جَزاءِ الصَّيْدِ في الحَرَمِ أوْ في الإحْرامِ. وأمّا تَسْمِيَتُها أمْوالَ الآلِهَةِ لِأنَّها أمْوالٌ تُحَصَّلُ مِن نَحْوِ السّائِبَةِ والبَحِيرَةِ وما يُوهَبُ لِلْآلِهَةِ مِن سِلاحٍ ومَتاعٍ. فَكانَتْ لِبَنِي سَهْمٍ وهم أبْناءُ عَمٍّ لِقُصَيٍّ. وجاءَ الإسْلامُ وهي بِيَدِ الحارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ سَهْمٍ.
وأمّا الأيْسارُ وهي الأزْلامُ الَّتِي يَسْتَقْسِمُونَ بِها فَكانَتْ لِبَنِي جُمَحٍ وهم أبْناءُ عَمٍّ لِقُصَيٍّ، وجاءَ الإسْلامُ وهي بِيَدِ صَفْوانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ.
وقَدْ أبْطَلَ الإسْلامُ جَمِيعَ هَذِهِ المَناصِبِ، عَدا السِّدانَةَ والسِّقايَةَ، لِقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ في خُطْبَةِ حَجَّةِ الوَداعِ «ألا إنَّ كُلَّ مَأْثُرَةٍ مِن مَآثِرِ الجاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ هاتَيْنِ إلّا سِقايَةَ الحاجِّ وسِدانَةَ البَيْتِ» .
وكانَتْ مَناصِبُ العَرَبِ الَّتِي بِيَدِ قُصَيِّ بْنِ كِلابٍ خَمْسَةً: الحِجابَةَ، والسِّقايَةَ، والرِّفادَةَ، والنَّدْوَةَ، واللِّواءَ فَلَمّا كَبُرَ قُصَيٌّ جَعَلَ المَناصِبَ لِابْنِهِ عَبْدِ الدّارِ، ثُمَّ اخْتَصَمَ أبْناءُ قُصَيٍّ بَعْدَ مَوْتِهِ وتَداعَوْا لِلْحَرْبِ، ثُمَّ تَداعَوْا لِلصُّلْحِ، عَلى أنْ يُعْطُوا بَنِي عَبْدِ الدّارِ الحِجابَةَ واللِّواءَ والنَّدْوَةَ، وأنْ يُعْطُوا بَنِي عَبْدَ مَنافٍ السِّقايَةَ والرِّفادَةَ، وأُحْدِثَتْ مَناصِبُ لِبَعْضٍ مِن قُرَيْشٍ غَيْرِ أبْناءِ قُصَيٍّ فانْتَهَتِ المَناصِبُ إلى عَشْرَةٍ كَما ذَكَرْنا.
وذِكْرُ الإيمانِ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ لَيْسَ لِأنَّهُ مَحَلُّ التَّسْوِيَةِ المَرْدُودَةِ عَلَيْهِمْ لِأنَّهم لَمْ يَدَّعُوا التَّسْوِيَةَ بَيْنَ السِّقايَةِ أوِ العِمارَةِ بِدُونِ الإيمانِ، بَلْ ذِكْرُ الإيمانِ إدْماجٌ، لِلْإيماءِ إلى أنَّ الجِهادَ أثَرُ الإيمانِ، وهو مُلازِمٌ لِلْإيمانِ، فَلا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِ التَّنَصُّلُ مِنهُ بِعِلَّةِ اشْتِغالِهِ بِسِقايَةِ الحاجِّ وعِمارَةِ المَسْجِدِ الحَرامِ. ولَيْسَ ذِكْرُ الإيمانِ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ لِكَوْنِ الَّذِينَ جَعَلُوا مَزِيَّةَ سِقايَةِ الحاجِّ وعِمارَةِ المَسْجِدِ الحَرامِ مِثْلَ مَزِيَّةِ الإيمانِ
صفحة ١٤٦
لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ لِأنَّهم لَوْ كانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ لَما جَعَلُوا مَناصِبَ دِينِهِمْ مُساوِيَةً لِلْإيمانِ، بَلْ لَجَعَلُوها أعْظَمَ. وإنَّما تَوَهَّمُوا أنَّهُما عَمَلانِ يَعْدِلانِ الجِهادَ، وفي الشَّغْلِ بِهِما عُذْرٌ لِلتَّخَلُّفِ عَنِ الجِهادِ، أوْ مَزِيَةٌ دِينِيَّةٌ تُساوِي مَزِيَّةَ المُجاهِدِينَ.وقَدْ دَلَّ ذِكْرُ السِّقايَةِ والعِمارَةِ في جانِبِ المُشَبَّهِ، وذِكْرُ مَن آمَنَ وجاهَدَ في جانِبِ المُشَبَّهِ بِهِ، عَلى أنَّ العَمَلَيْنِ ومَن عَمِلَهُما لا يُساوِيانِ العَمَلَيْنِ الآخَرَيْنِ ومَن عَمِلَهُما. فَوَقَعَ احْتِباكٌ في طَرَفَيِ التَّشْبِيهِ، أيْ لا يَسْتَوِي العَمَلانِ مَعَ العَمَلَيْنِ ولا عامِلُو هَذَيْنِ بِعامِلِي ذَيْنِكَ العَمَلَيْنِ. والتَّقْدِيرُ: أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجِّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرامِ كالإيمانِ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ والجِهادِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وجَعَلْتُمْ سَقّايَةَ الحاجِّ وعُمّارَ المَسْجِدِ كالمُؤْمِنِينَ والمُجاهِدِينَ في سَبِيلِ اللَّهِ. ولَمّا ذُكِرَتِ التَّسْوِيَةُ في قَوْلِهِ: ﴿لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أُسْنِدَتْ إلى ضَمِيرِ العامِلِينَ، دُونَ الأعْمالِ: لِأنَّ التَّسْوِيَةَ لَمْ يَشْتَهِرْ في الكَلامِ تَعْلِيقُها بِالمَعانِي بَلْ بِالذَّواتِ.
وجُمْلَةُ ﴿لا يَسْتَوُونَ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا: لِبَيانِ ما يُسْألُ عَنْهُ مِن مَعْنى الإنْكارِ الَّذِي في الِاسْتِفْهامِ بِقَوْلِهِ: أجَعَلْتُمُ الآيَةَ.
وجُمْلَةُ ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ ﴿أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجِّ﴾ إلَخْ، ومَوْقِعُهُ هُنا خَفِيٌّ إنْ كانَتِ السُّورَةُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وكانَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِمّا نَزَلَ مَعَ السُّورَةِ ولَمْ تَنْزِلْ قَبْلَها، عَلى ما رَجَّحْناهُ مِن رِوايَةِ النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ في سَبَبِ نُزُولِها، فَإنَّهُ لَمْ يَبْقَ يَوْمَئِذٍ مَن يَجْعَلُ سِقايَةَ الحاجِّ وعِمارَةَ البَيْتِ تُساوِيانِ الإيمانَ والجِهادَ، حَتّى يَرُدَّ عَلَيْهِ بِما يَدُلُّ عَلى عَدَمِ اهْتِدائِهِ. وقَدْ تَقَدَّمَ ما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ في سَبَبِ نُزُولِها وهو يَزِيدُ مَوْقِعَها خَفاءً.
فالوَجْهُ عِنْدِي في مَوْقِعِ جُمْلَةِ ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ أنَّ مَوْقِعَها الِاعْتِراضُ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجِّ﴾ وجُمْلَةِ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وجاهَدُوا﴾ [التوبة: ٢٠] إلَخْ.
والمَقْصُودُ مِنها زِيادَةُ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الإيمانِ، إعْلامًا بِأنَّهُ دَلِيلٌ إلى الخَيْراتِ، وقائِدٌ إلَيْها. فالَّذِينَ آمَنُوا قَدْ هَداهم إيمانُهم إلى فَضِيلَةِ الجِهادِ، والَّذِينَ كَفَرُوا لَمْ يَنْفَعْهم ما كانُوا فِيهِ مِن عِمارَةِ المَسْجِدِ الحَرامِ وسِقايَةِ الحاجِّ، فَلَمْ يَهْدِهِمُ اللَّهُ إلى الخَيْرِ، وذَلِكَ
صفحة ١٤٧
بُرْهانٌ عَلى أنَّ الإيمانَ هو الأصْلُ، وأنَّ شُعَبَهُ المُتَوَلِّدَةَ مِنهُ أفْضَلُ الأعْمالِ، وأنَّ ما عَداها مِنَ المَكارِمِ والخَيْراتِ في الدَّرَجَةِ الثّانِيَةِ في الفَضْلِ؛ لِأنَّها لَيْسَتْ مِن شُعَبِ الإيمانِ، وإنْ كانَ كِلا الصِّفَتَيْنِ لا يَنْفَعُ إلّا إذا كانَ مَعَ الإيمانِ، وخاصَّةً الجِهادَ.وفِيهِ إيماءٌ إلى أنَّهُ: لَوْلا الجِهادُ لَما كانَ أهْلُ السِّقايَةِ وعِمارَةِ المَسْجِدِ الحَرامِ مُؤْمِنِينَ، فَإنَّ إيمانَهم كانَ مِن آثارِ غَزْوَةِ فَتْحِ مَكَّةَ وجَيْشِ الفَتْحِ إذْ آمَنَ العَبّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ وهو صاحِبُ السِّقايَةِ، وآمَنَ عُثْمانُ بْنُ طَلْحَةَ وهو صاحِبُ عِمارَةِ المَسْجِدِ الحَرامِ.
فَأمّا ما رَواهُ الطَّبَرَيُّ والواحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: مِن أنَّ نُزُولَ هَذِهِ الآيَةِ كانَ يَوْمَ بَدْرٍ، بِسَبَبِ المُماراةِ الَّتِي وقَعَتْ بَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ والعَبّاسِ، فَمَوْقِعُ التَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ واضِحٌ: أيْ لا يَهْدِي المُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْقُونَ الحاجَّ ويَعْمُرُونَ المَسْجِدَ الحَرامَ، إذْ لا يُجْدِي ذَلِكَ مَعَ الإشْراكِ. فَتَبَيَّنَ أنَّ ما تَوَهَّمُوهُ مِنَ المُساواةِ بَيْنَ تِلْكَ الأعْمالِ وبَيْنَ الجِهادِ، وتَنازُعَهم في ذَلِكَ، خَطَأٌ مِنَ النَّظَرِ، إذْ لا تَسْتَقِيمُ تَسْوِيَةُ التّابِعِ بِالمَتْبُوعِ والفَرْعِ بِالأصْلِ، ولَوْ كانَتِ السِّقايَةُ والعِمارَةُ مُساوِيَتَيْنِ لِلْجِهادِ لَكانَ أصْحابُهُما قَدِ اهْتَدَوْا إلى نَصْرِ الإيمانِ، كَما اهْتَدى إلى نَصْرِهِ المُجاهِدُونَ، والمُشاهَدَةُ دَلَّتْ عَلى خِلافِ ذَلِكَ: فَإنَّ المُجاهِدِينَ كانُوا مُهْتَدِينَ ولَمْ يَكُنْ أهْلُ السِّقايَةِ والعِمارَةِ بِالمُهْتَدِينَ. فالهِدايَةُ شاعَ إطْلاقُها مَجازًا بِاسْتِعارَتِها لِمَعْنى الإرْشادِ عَلى المَطْلُوبِ، وهي بِحَسَبِ هَذا الإطْلاقِ مُرادٌ بِها مَطْلُوبٌ خاصٌّ وهو ما يَطْلُبُهُ مَن يَعْمَلُ عَمَلًا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلى اللَّهِ، كَما يَقْتَضِيهِ تَعْقِيبُ ذِكْرِ سِقايَةِ الحاجِّ وعِمارَةِ المَسْجِدِ بِهَذِهِ الجُمْلَةِ.
وكُنِّيَ بِنَفْيِ الهِدايَةِ عَنْ نَفْيِ حُصُولِ الغَرَضِ مِنَ العَمَلِ.
والمَعْنى: واللَّهُ لا يَقْبَلُ مِنَ القَوْمِ المُشْرِكِينَ أعْمالَهم.
ونُسِبَ إلى ابْنِ ورْدانَ أنَّهُ رَوى عَنْ أبِي جَعْفَرٍ أنَّهُ قَرَأ: سُقاةَ الحاجِّ بِضَمِّ السِّينِ جَمْعُ السّاقِي - وقَرَأ“ وعَمَرَةَ " بِالعَيْنِ المَفْتُوحَةِ وبِدُونِ ألِفٍ وبِفَتْحِ الرّاءِ جَمْعُ عامِرٍ - وقَدِ اخْتُلِفَ فِيها عَنِ ابْنِ ورْدانَ.