﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ في مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ويَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أعْجَبَتْكم كَثْرَتُكم فَلَمْ تُغْنِ عَنْكم شَيْئًا وضاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ ولَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ .

لَمّا تَضَمَّنَتِ الآياتُ السّابِقَةُ الحَثَّ عَلى قِتالِ المُشْرِكِينَ ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، وكانَ التَّمْهِيدُ لِلْإقْدامِ عَلى ذَلِكَ مُدَرَّجًا بِإبْطالِ حُرْمَةِ عَهْدِهِمْ، لِشِرْكِهِمْ، وبِإظْهارِ أنَّهم مُضْمِرُونَ العَزْمَ عَلى الِابْتِداءِ بِنَقْضِ العُهُودِ الَّتِي بَيْنَهم وبَيْنَ المُسْلِمِينَ لَوْ قُدِّرَ لَهُمُ النَّصْرُ عَلى المُسْلِمِينَ وآيَةُ ذَلِكَ: اعْتِداؤُهم عَلى خُزاعَةَ أحْلافِ المُسْلِمِينَ، وهَمُّهم بِإخْراجِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - مِن مَكَّةَ بَعْدَ الفَتْحِ، حَتّى إذا انْتَهى ذَلِكَ التَّمْهِيدُ المُدَرَّجُ إلى الحَثِّ عَلى قِتالِهِمْ وضَمانِ نَصْرِ اللَّهِ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وما اتَّصَلَ بِذَلِكَ مِمّا يُثِيرُ حَماسَةَ المُسْلِمِينَ جاءَ في هَذِهِ الآيَةِ بِشَواهِدِ ما سَبَقَ مِن نَصْرِ اللَّهِ المُسْلِمِينَ في مَواطِنَ كَثِيرَةٍ، وتَذْكِيرٍ بِمُقارَنَةِ التَّأْيِيدِ الإلَهِيِّ لِحالَةِ الِامْتِثالِ لِأوامِرِهِ، وأنَّ في غَزْوَةِ حُنَيْنٍ شَواهِدَ تَشْهَدُ لِلْحالَيْنِ. فالكَلامُ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ لِمُناسَبَةِ الغَرَضِ السّابِقِ.

صفحة ١٥٥

وأُسْنِدَ النَّصْرُ إلى اللَّهِ بِالصَّراحَةِ لِإظْهارِ أنَّ إيثارَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وإنْ كانَ يُفِيتُ بَعْضَ حُظُوظِ الدُّنْيا، فَفِيهِ حَظُّ الآخِرَةِ وفِيهِ حُظُوظٌ أُخْرى مِنَ الدُّنْيا وهي حُظُوظُ النَّصْرِ بِما فِيهِ: مِن تَأْيِيدِ الجامِعَةِ، ومِنَ المَغانِمِ، وحِمايَةِ الأُمَّةِ مِنِ اعْتِداءِ أعْدائِها، وذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ إذْ آثَرُوا مَحَبَّتَهُ عَلى مَحَبَّةِ عَلائِقِهِمِ الدُّنْيَوِيَّةِ.

وأكَّدَ الكَلامَ بِـ قَدْ لِتَحْقِيقِ هَذا النَّصْرِ لِأنَّ القَوْمَ كَأنَّهم نَسُوهُ أوْ شَكُّوا فِيهِ فَنَزَلُوا مَنزِلَةَ مَن يَحْتاجُ إلى تَأْكِيدِ الخَبَرِ.

ومَواطِنَ: جَمْعُ مَوْطِنٍ، والمَوْطِنُ أصْلُهُ مَكانُ التَّوَطُّنِ، أيِ الإقامَةِ. ويُطْلَقُ عَلى مَقامِ الحَرْبِ ومَوْقِفِها، أيْ نَصْرِكم في مَواقِعِ حُرُوبٍ كَثِيرَةٍ.

و”يَوْمَ“ مَعْطُوفٌ عَلى الجارِّ والمَجْرُورِ مِن قَوْلِهِ: في مَواطِنَ فَهو مُتَعَلِّقٌ بِما تَعَلَّقَ بِهِ المَعْطُوفُ عَلَيْهِ وهو نَصْرُكم والتَّقْدِيرُ: ونَصَرَكم يَوْمَ حُنَيْنٍ وهو مِن جُمْلَةِ المَواطِنِ؛ لِأنَّ مَواطِنَ الحَرْبِ تَقْتَضِي أيّامًا تَقَعُ فِيها الحَرْبُ، فَتَدُلُّ المَواطِنُ عَلى الأيّامِ كَما تَدُلُّ الأيّامُ عَلى المَواطِنِ، فَلَمّا أُضِيفَ اليَوْمُ إلى اسْمِ مَكانٍ عُلِمَ أنَّهُ مَوْطِنٌ مِن مَواطِنِ النَّصْرِ ولِذَلِكَ عُطِفَ بِالواوِ لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْطَفْ لَتُوُهِّمَ أنَّ المَواطِنَ كُلَّها في يَوْمِ حُنَيْنٍ، ولَيْسَ هَذا المُرادَ. ولِهَذا فالتَّقْدِيرُ: في مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وأيّامَ كَثِيرَةٍ مِنها مَوْطِنُ حُنَيْنٍ ويَوْمَ حُنَيْنٍ.

وتَخْصِيصُ يَوْمِ حُنَيْنٍ بِالذِّكْرِ مِن بَيْنِ أيّامِ الحُرُوبِ: لِأنَّ المُسْلِمِينَ انْهَزَمُوا في أثْناءِ النَّصْرِ ثُمَّ عادَ إلَيْهِمُ النَّصْرُ، فَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِما فِيهِ مِنَ العِبْرَةِ بِحُصُولِ النَّصْرِ عِنْدَ امْتِثالِ أمْرِ اللَّهِ ورَسُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - وحُصُولِ الهَزِيمَةِ عِنْدَ إيثارِ الحُظُوظِ العاجِلَةِ عَلى الِامْتِثالِ، فَفِيهِ مَثَلٌ وشاهِدٌ لِحالَتَيِ الإيثارَيْنِ المَذْكُورَيْنِ آنِفًا في قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿أحَبَّ إلَيْكم مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهادٍ في سَبِيلِهِ﴾ [التوبة: ٢٤] لِيَتَنَبَّهُوا إلى أنَّ هَذا الإيثارَ قَدْ يَعْرِضُ في أثْناءِ إيثارٍ آخَرَ، فَهم لَمّا خَرَجُوا إلى غَزْوَةِ حُنَيْنٍ كانُوا قَدْ آثَرُوا مَحَبَّةَ الجِهادِ عَلى مَحَبَّةِ أسْبابِهِمْ وعَلاقاتِهِمْ، ثُمَّ هم في أثْناءِ الجِهادِ قَدْ عاوَدَهم إيثارُ الحُظُوظِ العاجِلَةِ عَلى امْتِثالِ أمْرِ اللَّهِ ورَسُولِهِ ﷺ الَّذِي هو مِن آثارِ إيثارِ مَحَبَّتِها، وهي عِبْرَةٌ دَقِيقَةٌ حَصَلَ فِيها الضِّدّانِ ولِذَلِكَ كانَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: ﴿إذْ أعْجَبَتْكم كَثْرَتُكُمْ﴾

صفحة ١٥٦

بَدِيعًا لِأنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلى خَطَئِهِمْ في الأدَبِ مَعَ اللَّهِ المُناسِبِ لِمَقامِهِمْ أيْ: ما كانَ يَنْبَغِي لَكم أنْ تَعْتَمِدُوا عَلى كَثْرَتِكم.

وحُنَيْنُ اسْمُ وادٍ بَيْنَ مَكَّةَ والطّائِفِ قُرْبَ ذِي المَجازِ، كانَتْ فِيهِ وقْعَةٌ عَظِيمَةٌ عَقِبَ فَتْحِ مَكَّةَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ مَعَ النَّبِيءِ ﷺ وكانُوا اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا، وبَيْنَ هَوازِنَ وثَقِيفَ وألْفافِهِما، إذْ نَهَضُوا لِقِتالِ النَّبِيءِ ﷺ حَمِيَّةً وغَضَبًا لِهَزِيمَةِ قُرَيْشٍ ولِفَتْحِ مَكَّةَ، وكانَ عَلى هَوازِنَ مالِكُ بْنُ عَوْفٍ، أخُو بَنِي نَصْرٍ، وعَلى ثَقِيفَ عَبْدُ يا لَيْلَ بْنُ عَمْرٍو الثَّقَفِيُّ، وكانُوا في عَدَدٍ كَثِيرٍ وسارُوا إلى مَكَّةَ فَخَرَجَ إلَيْهِمُ النَّبِيءُ ﷺ حَتّى اجْتَمَعُوا بِحُنَيْنٍ فَقالَ المُسْلِمُونَ: لَنْ نُغْلَبَ اليَوْمَ مِن قِلَّةٍ، ووَثِقُوا بِالنَّصْرِ لِقُوَّتِهِمْ، فَحَصَلَتْ لَهم هَزِيمَةٌ عِنْدَ أوَّلِ اللِّقاءِ كانَتْ عِتابًا إلَهِيًّا عَلى نِسْيانِهِمُ التَّوَكُّلَ عَلى اللَّهِ في النَّصْرِ، واعْتِمادِهِمْ عَلى كَثْرَتِهِمْ، وذَلِكَ رُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمّا سَمِعَ قَوْلَ بَعْضِ المُسْلِمِينَ ”لَنْ نُغْلَبَ مِن قِلَّةٍ“ ساءَهُ ذَلِكَ، فَإنَّهم لَمّا هَبَطُوا وادِي حُنَيْنٍ كانَ الأعْداءُ قَدْ كَمَنُوا لَهم في شِعابِهِ وأحْنائِهِ، فَما راعَ المُسْلِمِينَ وهم مُنْحَدِرُونَ في الوادِي إلّا كَتائِبُ العَدُوِّ وقَدْ شَدَّتْ عَلَيْهِمْ وقِيلَ: إنَّ المُسْلِمِينَ حَمَلُوا عَلى العَدُوِّ فانْهَزَمَ العَدُوُّ فَلَحِقُوهم يَغْنَمُونَ مِنهم، وكانَتْ هَوازِنُ قَوْمًا رُماةً فَأكْثَبُوا المُسْلِمِينَ بِالسِّهامِ فَأدْبَرَ المُسْلِمُونَ راجِعِينَ لا يَلْوِي أحَدٌ عَلى أحَدٍ، وتَفَرَّقُوا في الوادِي، وتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ المُشْرِكُونَ ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثابِتٌ في الجِهَةِ اليُمْنى مِنَ الوادِي ومَعَهُ عَشَرَةٌ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ فَأمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ العَبّاسَ عَمَّهُ أنْ يَصْرُخَ في النّاسِ: يا أصْحابَ الشَّجَرَةِ - أوِ السَّمُرَةِ - يَعْنِي أهْلَ بَيْعَةِ الرِّضْوانِ - يا مَعْشَرَ المُهاجِرِينَ - يا أصْحابَ سُورَةِ البَقَرَةِ - يَعْنِي الأنْصارَ - هَلُمُّوا إلَيَّ، فاجْتَمَعَ إلَيْهِ مِائَةٌ، وقاتَلُوا هَوازِنَ مَعَ مَن بَقِيَ مَعَ النَّبِيءِ ﷺ واجْتَلَدَ النّاسُ، وتَراجَعَ بَقِيَّةُ المُنْهَزِمِينَ واشْتَدَّ القِتالُ وقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ”«الآنَ حَمِيَ الوَطِيسُ» “ فَكانَتِ الدّائِرَةُ عَلى المُشْرِكِينَ وهُزِمُوا شَرَّ هَزِيمَةٍ وغُنِمَتْ أمْوالُهم وسُبِيَتْ نِساؤُهم.

فَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعالى: ﴿وضاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ﴾ وهَذا التَّرْكِيبُ تَمْثِيلٌ لِحالِ المُسْلِمِينَ لَمّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ البَأْسُ واضْطَرَبُوا ولَمْ يَهْتَدُوا لِدَفْعِ العَدُوِّ عَنْهم، بِحالِ مَن يَرى الأرْضَ الواسِعَةَ ضَيِّقَةً.

صفحة ١٥٧

فالضِّيقُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (بِما رَحُبَتْ) اسْتُعِيرَ ﴿وضاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ﴾ اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ تَمْثِيلًا لِحالِ مَن لا يَسْتَطِيعُ الخَلاصَ مِن شِدَّةٍ بِسَبَبِ اخْتِلالِ قُوَّةِ تَفْكِيرِهِ، بِحالِ مَن هو في مَكانٍ ضَيِّقٍ مِنَ الأرْضِ يُرِيدُ أنْ يَخْرُجَ مِنهُ فَلا يَسْتَطِيعُ تَجاوُزَهُ ولا الِانْتِقالَ مِنهُ.

فالباءُ لِلْمُلابَسَةِ، وما مَصْدَرِيَّةٌ، والتَّقْدِيرُ: ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ حالَةَ كَوْنِها ‌‌‌‌مُلابِسَةً ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌لِرُحْبِها أيْ سِعَتِها: أيْ في حالَةِ كَوْنِها لا ضِيقَ فِيها وهَذا المَعْنى كَقَوْلِ الطِّرِمّاحِ بْنِ حَكِيمٍ:

مَلَأْتُ عَلَيْهِ الأرْضَ حَتّى كَأنَّها مِنَ الضِّيقِ في عَيْنَيْهِ كِفَّةُ حابِلِ

قالَ الأعْلَمُ: ”أيْ مِنَ الذُّعْرِ“ هو مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِ الآخَرِ:

كَأنَّ فِجاجَ الأرْضِ وهي عَرِيضَةٌ ∗∗∗ عَلى الخائِفِ المَطْلُوبِ كِفَّةُ حابِلِ

وهَذا أحْسَنُ مِن قَوْلِ المُفَسِّرِينَ أنَّ مَعْنى ﴿وضاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ﴾ لَمْ تَهْتَدُوا إلى مَوْضِعٍ مِنَ الأرْضِ تَفِرُّونَ إلَيْهِ فَكَأنَّ الأرْضَ ضاقَتْ عَلَيْكم، ومِنهم مَن أجْمَلَ فَقالَ: أيْ لِشِدَّةِ الحالِ وصُعُوبَتِها.

ومَوْقِعُ ثُمَّ في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ ولَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ مَوْقِعُ التَّراخِي الرُّتْبِيِّ، أيْ: وأعْظَمُ مِمّا نالَكم مِنَ الشَّرِّ أنْ ولَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ.

والتَّوَلِّي: الرُّجُوعُ، ومُدْبِرِينَ حالٌ: إمّا مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنى ولَّيْتُمْ أوْ أُرِيدَ بِها إدْبارٌ أخَصُّ مِنَ التَّوَلِّي؛ لِأنَّ التَّوَلِّيَ مُطْلَقٌ يَكُونُ لِلْهُرُوبِ، ويَكُونُ لِلْفَرِّ في حِيَلِ الحُرُوبِ، والإدْبارُ شائِعٌ في الفِرارِ الَّذِي لَمْ يُقْصَدُ بِهِ حِيلَةً فَيَكُونُ الفَرْقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ التَّوَلِّي اصْطِلاحًا حَرْبِيًّا.