﴿انْفِرُوا خِفافًا وثِقالًا وجاهِدُوا بِأمْوالِكم وأنْفُسِكم في سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكم خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾

الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ سَبَقَ لَوْمُهم بِقَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكم إذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ اثّاقَلْتُمْ إلى الأرْضِ﴾ [التوبة: ٣٨]، فالنَّفِيرُ المَأْمُورُ بِهِ ما يُسْتَقْبَلُ مِنَ الجِهادِ. وقَدْ قَدَّمَنا أنَّ الِاسْتِنْفارَ إلى غَزْوَةِ تَبُوكَ كانَ عامًّا لِكُلِّ قادِرٍ عَلى الغَزْوِ: لِأنَّها كانَتْ في زَمَنِ مَشَقَّةٍ، وكانَ المَغْزُوُّ عَدُوًّا عَظِيمًا، فالضَّمِيرُ في ﴿انْفِرُوا﴾ [التوبة: ٣٨] عامٌّ لِلَّذِينَ اسْتُنْفِرُوا فَتَثاقَلُوا، وإنَّما اسْتُنْفِرَ القادِرُونَ، وكانَ الِاسْتِنْفارُ عَلى قَدْرِ حاجَةِ الغَزْوِ، فَلا يَقْتَضِي هَذا الأمْرُ تَوَجُّهَ وُجُوبِ النَّفِيرِ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ في كُلِّ غَزْوَةٍ، ولا عَلى المُسْلِمِ العاجِزِ لِعَمًى أوْ زَمانَةٍ. أوْ مَرَضٍ، وإنَّما يَجْرِي العَمَلُ في كُلِّ غَزْوَةٍ عَلى حَسَبِ ما يَقْتَضِيهِ حالُها وما يَصْدُرُ إلَيْهِمْ مِن نَفِيرٍ. وفي الحَدِيثِ «وإذا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفِرُوا»

و”خِفافًا“ جَمْعُ خَفِيفٍ وهو صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنَ الخِفَّةِ، وهي حالَةٌ لِلْجِسْمِ تَقْتَضِي قِلَّةَ كَمِّيَّةِ أجْزائِهِ بِالنِّسْبَةِ إلى أجْسامٍ أُخْرى مُتَعارَفَةٌ، فَيَكُونُ سَهْلَ التَّنَقُّلِ سَهْلَ الحَمْلِ. والثِّقالُ ضِدُّ ذَلِكَ، وتَقَدَّمَ الثِّقَلُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿اثّاقَلْتُمْ إلى الأرْضِ﴾ [التوبة: ٣٨]

والخِفافُ والثِّقالُ هُنا مُسْتَعارانِ لِما يُشابِهُهُما مِن أحْوالِ الجَيْشِ وعَلائِقِهِمْ، فالخِفَّةُ تُسْتَعارُ لِلْإسْراعِ إلى الحَرْبِ، وكانُوا يَتَمادَحُونَ بِذَلِكَ لِدَلالَتِها عَلى الشَّجاعَةِ والنَّجْدَةِ، قالَ قُرَيْطُ بْنُ أنِيفٍ العَنْبَرِيُّ:

قَوْمٌ إذا الشَّرُّ أبْدى ناجِذَيْهِ لَهم طارُوا إلَيْهِ زَرافاتٍ ووُحْدانا

صفحة ٢٠٧

فالثِّقَلُ الَّذِي يُناسِبُ هَذا هو الثَّباتُ في القِتالِ كَما في قَوْلِ أبِي الطَّيِّبِ:

ثِقالٍ إذا لاقَوْا خِفافٍ إذا دُعُوا

وتُسْتَعارُ الخِفَّةُ لِقِلَّةِ العَدَدِ، والثِّقَلُ لِكَثْرَةِ عَدَدِ الجَيْشِ كَما في قَوْلِ قُرَيْطٍ: ”زَرافاتٍ ووُحْدانا“ .

وتُسْتَعارُ الخِفَّةُ لِتَكْرِيرِ الهُجُومِ عَلى الأعْداءِ، والثِّقَلُ لِلتَّثَبُّتِ في الهُجُومِ. وتُسْتَعارُ الخِفَّةُ لِقِلَّةِ الأزْوادِ أوْ قِلَّةِ السِّلاحِ، والثِّقَلُ لِضِدِّ ذَلِكَ. وتُسْتَعارُ الخِفَّةُ لِقِلَّةِ العِيالِ، والثِّقَلُ لِضِدِّ ذَلِكَ وتُسْتَعارُ الخِفَّةُ لِلرُّكُوبِ لِأنَّ الرّاكِبَ أخَفُّ سَيْرًا، والثِّقَلُ لِلْمَشْيِ عَلى الأرْجُلِ وذَلِكَ في وقْتِ القِتالِ. قالَ النّابِغَةُ:

عَلى عارِفاتٍ لِلطِّعانِ عَوابِسٍ ∗∗∗ بِهِنَّ كُلُومٌ بَيْنَ دامٍ وجالِبِ

إذا اسْتُنْزِلُوا عَنْهُنَّ لِلضَّرْبِ أرْقَلُوا ∗∗∗ إلى المَوْتِ إرْقالَ الجِمالِ المَصاعِبِ

وكُلُّ هَذِهِ المَعانِي صالِحَةٌ لِلْإرادَةِ مِنَ الآيَةِ ولَمّا وقَعَ ﴿خِفافًا وثِقالًا﴾ حالًا مِن فاعِلِ انْفِرُوا، كانَ مَحْمَلُ بَعْضِ مَعانِيهِما عَلى أنْ تَكُونَ الحالُ مُقَدَّرَةً والواوُ العاطِفَةُ لِإحْدى الصِّفَتَيْنِ عَلى الأُخْرى لِلتَّقْسِيمِ، فَهي بِمَعْنى (أوْ)، والمَقْصُودُ الأمْرُ بِالنَّفِيرِ في جَمِيعِ الأحْوالِ.

والمُجاهَدَةُ المُغالَبَةُ لِلْعَدُوِّ، وهي مُشْتَقَّةٌ مِنَ الجُهْدِ - بِضَمِّ الجِيمِ - أيْ بَذْلِ الِاسْتِطاعَةِ في المُغالَبَةِ، وهو حَقِيقَةٌ في المُدافَعَةِ بِالسِّلاحِ، فَإطْلاقُهُ عَلى بَذْلِ المالِ في الغَزْوِ مِن إنْفاقٍ عَلى الجَيْشِ واشْتِراءِ الكُراعِ والسِّلاحِ، مَجازٌ بِعَلاقَةِ السَّبَبِيَّةِ.

وقَدْ أمَرَ اللَّهُ بِكِلا الأمْرَيْنِ فَمَنِ اسْتَطاعَهُما مَعًا وجَبا عَلَيْهِ، ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ إلّا واحِدًا مِنهُما وجَبَ عَلَيْهِ الَّذِي اسْتَطاعَهُ مِنهُما.

وتَقْدِيمُ الأمْوالِ عَلى الأنْفُسِ هُنا: لِأنَّ الجِهادَ بِالأمْوالِ أقَلُّ حُضُورًا بِالذِّهْنِ عِنْدَ سَماعِ الأمْرِ بِالجِهادِ، فَكانَ ذِكْرُهُ أهَمَّ بَعْدَ ذِكْرِ الجِهادِ مُجْمَلًا.

والإشارَةُ بِـ (ذَلِكم) إلى الجِهادِ المُسْتَفادِ مِن ”وجاهِدُوا“ .

صفحة ٢٠٨

وإبْهامُ (خَيْرٌ) لِقَصْدِ تَوَقُّعِ خَيْرِ الدُّنْيا والآخِرَةِ مِن شُعَبٍ كَثِيرَةٍ أهَمُّها الِاطْمِئْنانُ مِن أنْ يَغْزُوَهُمُ الرُّومُ ولِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أيْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ الخَيْرَ وشُعَبَهُ. وفي اخْتِيارِ فِعْلِ العِلْمِ دُونَ الإيمانِ مَثَلًا لِلْإشارَةِ إلى أنَّ مِن هَذا الخَيْرِ ما يَخْفى فَيَحْتاجُ مُتَطَلِّبُ تَعْيِينِ شُعَبِهِ إلى إعْمالِ النَّظَرِ والعِلْمِ.