Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
صفحة ٢٩
﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرارًا وكُفْرًا وتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وإرْصادًا لِمَن حارَبَ اللَّهَ ورَسُولَهُ مِن قَبْلُ ولَيَحْلِفُنَّ إنْ أرَدْنا إلّا الحُسْنى واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهم لَكاذِبُونَ﴾ ﴿لا تَقُمْ فِيهِ أبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِن أوَّلِ يَوْمٍ أحَقُّ أنَّ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا واللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ﴾هَذا كَلامٌ عَلى فَرِيقٍ آخَرَ مِنَ المُؤاخَذِينَ بِأعْمالٍ عَمِلُوها غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن أجْلِها، وهم فَرِيقٌ مِنَ المُنافِقِينَ بَنَوْا مَسْجِدًا حَوْلَ قُباءَ لِغَرَضٍ سَيِّءٍ لِيَنْصَرِفَ إخْوانُهم عَنْ مَسْجِدِ المُؤْمِنِينَ ويَنْفَرِدُوا مَعَهم بِمَسْجِدٍ يَخُصُّهم. فالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدائِيَّةٌ عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأها غَيْرَ مُفْتَتَحَةٍ بِواوِ العَطْفِ، وهي قِراءَةُ نافِعٍ وابْنِ عامِرٍ وأبِي جَعْفَرٍ. ونُكْتَةُ الِاسْتِئْنافِ هُنا التَّنْبِيهُ عَلى الِاخْتِلافِ بَيْنَ حالِ المُرادِ بِها وبَيْنَ حالِ المُرادِ بِالجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها وهُمُ المُرْجَوْنَ لِأمْرِ اللَّهِ. وقَرَأها البَقِيَّةُ بِواوِ العَطْفِ في أوَّلِها، فَتَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلى الَّتِي قَبْلَها لِأنَّها مِثْلُها في ذِكْرِ فَرِيقٍ آخَرَ مِثْلِ مَن ذُكِرَ فِيما قَبْلَها.
وعَلى كِلْتا القِراءَتَيْنِ فالكَلامُ جُمْلَةٌ إثْرَ جُمْلَةٍ ولَيْسَ ما بَعْدَ الواوِ عَطْفَ مُفْرَدٍ.
وقَوْلُهُ: (الَّذِينَ) مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ جُمْلَةُ ﴿لا تَقُمْ فِيهِ أبَدًا﴾ كَما قالَهُ الكِسائِيُّ. والرّابِطُ هو الضَّمِيرُ المَجْرُورُ مِن قَوْلِهِ: ﴿لا تَقُمْ فِيهِ﴾ لِأنَّ ذَلِكَ الضَّمِيرَ عائِدٌ إلى المَسْجِدِ وهو مَفْعُولُ صِلَةِ المَوْصُولِ فَهو سَبَبِيٌّ لِلْمُبْتَدَأِ، إذِ التَّقْدِيرُ: لا تَقُمْ في مَسْجِدٍ اتَّخَذُوهُ ضِرارًا، أوْ في مَسْجِدِهِمْ، كَما قَدَّرَهُ الكِسائِيُّ. ومَن أعْرَبُوا ﴿أفَمَن أُسِّسَ بُنْيانَهُ﴾ [التوبة: ١٠٩] خَبَرًا فَقَدْ بَعُدُوا عَنِ المَعْنى.
والآيَةُ أشارَتْ إلى قِصَّةِ اتِّخاذِ المُنافِقِينَ مَسْجِدًا قُرْبَ مَسْجِدِ قُباءَ لِقَصْدِ الضِّرارِ، وهم طائِفَةٌ مِن بَنِي غُنْمِ بْنِ عَوْفٍ وبَنِي سالِمِ بْنِ عَوْفٍ مِن أهْلِ العَوالِي. كانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا سَمّاهُمُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وكانَ سَبَبُ بِنائِهِمْ إيّاهُ أنَّ أبا عامِرٍ
صفحة ٣٠
واسْمُهُ عَبْدُ عَمْرٍو، ويُلَقَّبُ بِالرّاهِبِ مِن بَنِي غُنْمِ بْنِ عَوْفٍ كانَ قَدْ تَنَصَّرَ في الجاهِلِيَّةِ فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ كانَ مِنَ المُنافِقِينَ. ثُمَّ جاهَرَ بِالعَداوَةِ وخَرَجَ في جَماعَةٍ مِنَ المُنافِقِينَ فَحَزَّبَ الأحْزابَ الَّتِي حاصَرَتِ المَدِينَةَ في وقْعَةِ الخَنْدَقِ فَلَمّا هَزَمَهُمُ اللَّهُ أقامَ أبُو عامِرٍ بِمَكَّةَ. ولَمّا فُتِحَتْ مَكَّةُ هَرَبَ إلى الطّائِفِ، فَلَمّا فُتِحَتِ الطّائِفُ وأسْلَمَتْ ثَقِيفٌ خَرَجَ أبُو عامِرٍ إلى الشّامِ يَسْتَنْصِرُ بِقَيْصَرَ، وكَتَبَ إلى المُنافِقِينَ مِن قَوْمِهِ يَأْمُرُهم بِأنْ يَبْنُوا مَسْجِدًا لِيَخْلُصُوا فِيهِ بِأنْفُسِهِمْ، ويَعِدُهم أنَّهُ سَيَأْتِي في جَيْشٍ مِنَ الرُّومِ ويُخْرِجُ المُسْلِمِينَ مِنَ المَدِينَةِ. فانْتُدِبَ لِذَلِكَ اثْنا عَشَرَ رَجُلًا مِنَ المُنافِقِينَ بَعْضُهم مِن بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وبَعْضُهم مِن أحْلافِهِمْ مِن بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدٍ وغَيْرِهِمْ، فَبَنَوْهُ بِجانِبِ مَسْجِدِ قُباءَ، وذَلِكَ قُبَيْلَ مَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلى تَبُوكَ. وأتَوُا النَّبِيءَ ﷺ وقالُوا: بَنَيْنا مَسْجِدًا لِذِي العِلَّةِ والحاجَةِ واللَّيْلَةِ المَطِيرَةِ ونَحْنُ نُحِبُّ أنْ تُصَلِّيَ لَنا فِيهِ، فَقالَ لَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إنِّي عَلى جَناحِ سَفَرٍ وحالِ شُغْلٍ وإذا قَدِمْنا إنْ شاءَ اللَّهُ صَلَّيْنا فِيهِ. فَلَمّا قَفَلَ مِن غَزْوَةِ تَبُوكَ سَألُوهُ أنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَهم فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ، وحَلَفُوا أنَّهم ما أرادُوا بِهِ إلّا خَيْرًا.والضِّرارُ: مَصْدَرُ (ضارَّ) مُبالَغَةٌ في (ضَرَّ)، أيْ ضِرارًا لِأهْلِ الإسْلامِ. والتَّفْرِيقُ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ هو ما قَصَدُوهُ مِن صَرْفِ بَنِي غُنْمٍ وبَنِي سالِمٍ عَنْ قُباءَ.
والإرْصادُ: التَّهْيِئَةُ. والمُرادُ بِمَن حارَبَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أبُو عامِرٍ الرّاهِبُ؛ لِأنَّهُ حارَبَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَعَ الأحْزابِ وحارَبَهُ مَعَ ثَقِيفٍ وهَوازِنَ، فَقَوْلُهُ: مِن قَبْلُ إشارَةٌ إلى ذَلِكَ، أيْ مِن قَبْلِ بِناءِ المَسْجِدِ.
وجُمْلَةُ ﴿ولَيَحْلِفُنَّ إنْ أرَدْنا إلّا الحُسْنى﴾ مُعْتَرِضَةٌ، أوْ في مَوْضِعِ الحالِ. والحُسْنى: الخَيْرُ.
وجُمْلَةُ ﴿واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهم لَكاذِبُونَ﴾ مُعْتَرِضَةٌ.
وجُمْلَةُ ﴿لا تَقُمْ فِيهِ أبَدًا﴾ هي الخَبَرُ عَنِ اسْمِ المَوْصُولِ كَما قَدَّمْنا. والمُرادُ بِالقِيامِ الصَّلاةُ لِأنَّ أوَّلَها قِيامٌ.
صفحة ٣١
ووَجْهُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلاةِ فِيهِ أنَّ صَلاةَ النَّبِيءِ ﷺ فِيهِ تُكْسِبُهُ يُمْنًا وبَرَكَةً فَلا يَرى المُسْلِمُونَ لِمَسْجِدِ قُباءَ مَزِيَّةً عَلَيْهِ فَيَقْتَصِرُ بَنُو غُنْمٍ وبَنُو سالِمٍ عَلى الصَّلاةِ فِيهِ لِقُرْبِهِ مِن مَنازِلِهِمْ، وبِذَلِكَ يَحْصُلُ غَرَضُ المُنافِقِينَ مِن وضْعِهِ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ جَماعَةِ المُسْلِمِينَ. فَلَمّا كانَتْ صَلاةُ النَّبِيءِ ﷺ فِيهِ مُفْضِيَةً إلى تَرْوِيجِ مَقْصِدِهِمُ الفاسِدِ صارَ ذَلِكَ وسِيلَةً إلى مَفْسَدَةٍ فَتَوَجَّهَ النَّهْيُ إلَيْهِ. وهَذا لا يَطَّلِعُ عَلى مِثْلِهِ إلّا اللَّهُ تَعالى. وهَذا النَّهْيُ يَعُمُّ جَمِيعَ المُسْلِمِينَ لِأنَّهُ لَمّا نُهِيَ النَّبِيءُ عَنِ الصَّلاةِ فِيهِ عَلِمَ أنَّ اللَّهَ سَلَبَ عَنْهُ وصْفَ المَسْجِدِيَّةِ فَصارَتِ الصَّلاةُ فِيهِ باطِلَةً لِأنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسادَ المَنهِيِّ عَنْهُ، ولِذَلِكَ «أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَمّارَ بْنَ ياسِرٍ ووَحْشِيًّا مَوْلى المُطْعَمِ بْنِ عَدِيٍّ ومالِكَ بْنَ الدَّخْشَمِ ومَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ فَقالَ: انْطَلِقُوا إلى هَذا المَسْجِدِ الظّالِمِ أهْلُهُ فاهْدِمُوهُ وحَرِّقُوهُ، فَفَعَلُوا» . وتَحْرِيقُهُ تَحْرِيقُ الأعْوادِ الَّتِي يُتَّخَذُ مِنها السَّقْفُ، والجُذُوعِ الَّتِي تُجْعَلُ لَهُ أعْمِدَةً.وقَوْلُهُ: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِن أوَّلِ يَوْمٍ أحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ احْتِراسٌ مِمّا يَسْتَلْزِمُهُ النَّهْيُ عَنِ الصَّلاةِ فِيهِ مِن إضاعَةِ عِبادَةٍ في الوَقْتِ الَّذِي رَغَّبُوهُ لِلصَّلاةِ فِيهِ فَأمَرَهُ اللَّهُ بِأنْ يُصَلِّيَ في ذَلِكَ الوَقْتِ الَّذِي دَعَوْهُ فِيهِ لِلصَّلاةِ في مَسْجِدِ الضِّرارِ أنْ يُصَلِّيَ في مَسْجِدِهِ أوْ في مَسْجِدِ قُباءَ، لِئَلّا يَكُونَ لِامْتِناعِهِ مِنَ الصَّلاةِ مِن حُظُوظِ الشَّيْطانِ أنْ يَكُونَ صَرْفُهُ عَنْ صَلاةٍ في وقْتٍ دُعِيَ لِلصَّلاةِ فِيهِ، وهَذا أدَبٌ نَفْسانِيٌّ عَظِيمٌ.
وفِيهِ أيْضًا دَفْعُ مَكِيدَةِ المُنافِقِينَ أنْ يَطْعَنُوا في الرَّسُولِ ﷺ بِأنَّهُ دُعِيَ إلى الصَّلاةِ في مَسْجِدِهِمْ فامْتَنَعَ، فَقَوْلُهُ: أحَقُّ وإنْ كانَ اسْمَ تَفْضِيلِ فَهو مَسْلُوبُ المُفاضَلَةِ لِأنَّ النَّهْيَ عَنْ صَلاتِهِ في مَسْجِدِ الضِّرارِ أزالَ كَوْنَهُ حَقِيقًا بِصَلاتِهِ فِيهِ أصْلًا.
ولَعَلَّ نُكْتَةَ الإتْيانِ بِاسْمِ التَّفْضِيلِ أنَّهُ تَهَكُّمٌ عَلى المُنافِقِينَ بِمُجازاتِهِمْ ظاهِرًا في دَعْوَتِهِمُ النَّبِيءَ ﷺ لِلصَّلاةِ فِيهِ بِأنَّهُ وإنْ كانَ حَقِيقًا بِصَلاتِهِ بِمَسْجِدٍ أُسِّسَ عَلى التَّقْوى أحَقُّ مِنهُ، فَيُعْرَفُ مِن وصْفِهِ بِأنَّهُ ﴿أُسِّسَ عَلى التَّقْوى﴾ أنَّ هَذا أُسِّسَ عَلى ضِدِّها.
صفحة ٣٢
وثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ وغَيْرِهِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ سُئِلَ عَنِ المُرادِ مِنَ المَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلى التَّقْوى في هَذِهِ الآيَةِ فَقالَ: هو مَسْجِدُكم هَذا» . يَعْنِي المَسْجِدَ النَّبَوِيَّ بِالمَدِينَةِ. وثَبَتَ في الصَّحِيحِ أيْضًا «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ بَيَّنَ الرِّجالَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا بِأنَّهم بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أصْحابِ مَسْجِدِ قُباءَ» . وذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّ المَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِن أوَّلِ يَوْمٍ هو مَسْجِدُهم، لِقَوْلِهِ: ﴿فِيهِ رِجالٌ﴾ووَجْهُ الجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ عِنْدِي أنْ يَكُونَ المُرادُ بِقَوْلِهِ - تَعالى -: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِن أوَّلِ يَوْمٍ﴾ المَسْجِدَ الَّذِي هَذِهِ صِفَتُهُ لا مَسْجِدًا واحِدًا مُعَيَّنًا، فَيَكُونُ هَذا الوَصْفُ كُلِّيًّا انْحَصَرَ في فَرْدَيْنِ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ ومَسْجِدِ قُباءَ، فَأيُّهُما صَلّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في الوَقْتِ الَّذِي دَعَوْهُ فِيهِ لِلصَّلاةِ في مَسْجِدِ الضِّرارِ كانَ ذَلِكَ أحَقَّ وأجْدَرَ، فَيَحْصُلُ النَّجاءُ مِن حَظِّ الشَّيْطانِ في الِامْتِناعِ مِنَ الصَّلاةِ في مَسْجِدِهِمْ، ومِن مَطاعِنِهِمْ أيْضًا، ويَحْصُلُ الجَمْعُ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ. وقَدْ كانَ قِيامُ الرَّسُولِ في المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ هو دَأْبَهُ.
ومِن جَلِيلِ المَنازِعِ مِن هَذِهِ الآيَةِ ما فِيها مِن حُجَّةٍ لِصِحَّةِ آراءِ أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذْ جَعَلُوا العامَ الَّذِي كانَ فِيهِ يَوْمُ الهِجْرَةِ مَبْدَأ التّارِيخِ في الإسْلامِ. وذَلِكَ ما انْتَزَعَهُ السُّهَيْلِيُّ في الرَّوْضِ الأُنُفِ في فَصْلِ تَأْسِيسِ مَسْجِدِ قُباءَ إذْ قالَ: وفي قَوْلِهِ سُبْحانَهُ ﴿مِن أوَّلِ يَوْمٍ﴾ (وقَدْ عُلِمَ أنَّهُ لَيْسَ أوَّلَ الأيّامِ كُلِّها ولا أضافَهُ إلى شَيْءٍ في اللَّفْظِ الظّاهِرِ فِيهِ) مِنَ الفِقْهِ صِحَّةُ ما اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحابَةُ - رِضْوانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مَعَ عُمَرَ حِينَ شاوَرَهم في التّارِيخِ، فاتَّفَقَ رَأْيُهم أنْ يَكُونَ التّارِيخُ مِن عامِ الهِجْرَةِ؛ لِأنَّهُ الوَقْتُ الَّذِي عَزَّ فِيهِ الإسْلامُ وأمِنَ فِيهِ النَّبِيءُ ﷺ فَوافَقَ هَذا ظاهِرَ التَّنْزِيلِ.
وجُمْلَةُ ﴿فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا﴾ ثَناءٌ عَلى مُؤْمِنِي الأنْصارِ الَّذِينَ يُصَلُّونَ بِمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وبِمَسْجِدِ قُباءَ. وجاءَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا مُراعاةً لِلَفْظِ ”مَسْجِدٍ“ الَّذِي هو جِنْسٌ، كالإفْرادِ في قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿وتُؤْمِنُونَ بِالكِتابِ كُلِّهِ﴾ [آل عمران: ١١٩]
صفحة ٣٣
وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأنَّ أهْلَ مَسْجِدِ الضِّرارِ لَيْسُوا كَذَلِكَ. وقَدْ كانَ المُؤْمِنُونَ مِنَ الأنْصارِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الِاسْتِجْمارِ بِالأحْجارِ والغُسْلِ بِالماءِ كَما دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثٌ رَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ عَنْ أبِي أيُّوبَ وجابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وأنَسِ بْنِ مالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في هَذِهِ الآيَةِ ﴿فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا﴾ فَقالَ: «يا مَعْشَرَ الأنْصارِ إنَّ اللَّهَ قَدْ أثْنى عَلَيْكم خَيْرًا في الطَّهُورِ فَما طَهُورُكم ؟ قالُوا: إنَّ أحَدَنا إذا خَرَجَ مِنَ الغائِطِ أحَبَّ أنْ يَسْتَنْجِيَ بِالماءِ. قالَ: هو ذَلِكَ فَعَلَيْكُمُوهُ»، فَهَذا يَعُمُّ الأنْصارَ كُلَّهم. ولا يُعارِضُهُ حَدِيثُ أبِي داوُدَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَألَ أهْلَ قُباءَ عَنْ طَهارَتِهِمْ لِأنَّ أهْلَ قُباءَ هم أيْضًا مِنَ الأنْصارِ، فَسُؤالُهُ إيّاهم لِتَحَقُّقِ اطِّرادِ هَذا التَّطَهُّرِ في قَبائِلِ الأنْصارِ.وأُطْلِقَتِ المَحَبَّةُ في قَوْلِهِ: (يُحِبُّونَ) كِنايَةً عَنْ عَمَلِ الشَّيْءِ المَحْبُوبِ لِأنَّ الَّذِي يُحِبُّ شَيْئًا مُمْكِنًا يَعْمَلُهُ لا مَحالَةَ. فَقَصَدَ التَّنْوِيهَ بِهِمْ بِأنَّهم يَتَطَهَّرُونَ تَقَرُّبًا إلى اللَّهِ بِالطَّهارَةِ وإرْضاءً لِمَحَبَّةِ نُفُوسِهِمْ إيّاها، بِحَيْثُ صارَتِ الطِّهارَةُ خُلُقًا لَهم فَلَوْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ لَفَعَلُوها مِن تِلْقاءِ أنْفُسِهِمْ.
وجُمْلَةُ ﴿واللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ﴾ تَذْيِيلٌ. وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ نُفُوسَهم وافَقَتْ خُلُقًا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعالى. وكَفى بِذَلِكَ تَنْوِيهًا بِزَكاءِ أنْفُسِهِمْ.