صفحة ٧٠

﴿لَقَدْ جاءَكم رَسُولٌ مِن أنْفُسِكم عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وهْوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ﴾

كانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ سُورَةَ شِدَّةٍ وغِلْظَةٍ عَلى المُشْرِكِينَ وأهْلِ الكِتابِ والمُنافِقِينَ مِن أهْلِ المَدِينَةِ ومِنَ الأعْرابِ، وأمْرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِالجِهادِ، وإنْحاءً عَلى المُقَصِّرِينَ في شَأْنِهِ. وتَخَلَّلَ ذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِالمُتَّصِفِينَ بِضِدِّ ذَلِكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هاجَرُوا والَّذِينَ نَصَرُوا واتَّبَعُوا الرَّسُولَ في ساعَةِ العُسْرَةِ.

فَجاءَتْ خاتِمَةُ هَذِهِ السُّورَةِ آيَتَيْنِ بِتَذْكِيرِهِمْ بِالمِنَّةِ بِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ والتَّنْوِيهِ بِصِفاتِهِ الجامِعَةِ لِلْكَمالِ. ومِن أخَصِّها حِرْصُهُ عَلى هُداهم، ورَغْبَتُهُ في إيمانِهِمْ ودُخُولِهِمْ في جامِعَةِ الإسْلامِ لِيَكُونَ رَؤُوفًا رَحِيمًا بِهِمْ لِيَعْلَمُوا أنَّ ما لَقِيَهُ المُعْرِضُونَ عَنِ الإسْلامِ مِنَ الإغْلاظِ عَلَيْهِمْ بِالقَوْلِ والفِعْلِ ما هو إلّا اسْتِصْلاحٌ لِحالِهِمْ. وهَذا مِن مَظاهِرِ الرَّحْمَةِ الَّتِي جَعَلَها اللَّهُ - تَعالى - مُقارِنَةً لِبِعْثَةِ رَسُولِهِ ﷺ بِقَوْلِهِ: ﴿وما أرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧]، بِحَيْثُ جاءَ في هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ بِما شَأْنُهُ أنْ يُزِيلَ الحَرَجَ مِن قُلُوبِ الفِرَقِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهِمْ آياتُ الشِّدَّةِ وعُومِلُوا بِالغِلْظَةِ تَعْقِيبًا لِلشِّدَّةِ بِالرِّفْقِ ولِلْغِلْظَةِ بِالرَّحْمَةِ، وكَذَلِكَ عادَةُ القُرْآنِ. فَقَدِ انْفَتَحَ بِهاتَيْنِ الآيَتَيْنِ بابُ حَظِيرَةِ الإيمانِ والتَّوْبَةِ لِيَدْخُلَها مَن وفَّقَهُ اللَّهُ إلَيْها.

فالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا. وفي وُقُوعِها آخِرَ السُّورَةِ ما يُكْسِبُها مَعْنى التَّذْيِيلِ والخُلاصَةِ.

فالخِطابُ بِقَوْلِهِ: جاءَكم وما تَبِعَهُ مِنَ الخِطابِ مُوَجَّهٌ إلى جَمِيعِ الأُمَّةِ المَدْعُوَّةِ لِلْإسْلامِ.

والمَقْصُودُ بِالخِطابِ بادِئَ ذِي بَدْءٍ هُمُ المُعْرِضُونَ مِنَ المُشْرِكِينَ والمُنافِقِينَ مِنَ العَرَبِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَ الخِطابِ ﴿بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ وسَيَجِيءُ أنَّ المَقْصُودَ العَرَبُ.

صفحة ٧١

وافْتِتاحُها بِحَرْفَيِ التَّأْكِيدِ وهُما اللّامُ و(قَدْ) مَعَ كَوْنِ مَضْمُونِها مِمّا لا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الإنْكارُ لِقَصْدِ الِاهْتِمامِ بِهَذِهِ الجُمْلَةِ لِأهَمِّيَّةِ الغَرَضِ الَّذِي سِيقَتْ لِأجْلِهِ وهو الَّذِي سَنَذْكُرُهُ، ولِأنَّ فِيما تَضَمَّنَتْهُ ما يُنْكِرُهُ المُنافِقُونَ وهو كَوْنُهُ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ، ولِأنَّ في هَذا التَّأْكِيدِ ما يَجْعَلُ المُخاطَبِينَ بِهِ مُنَزَّلِينَ مَنزِلَةَ المُنْكِرِينَ لِمَجِيئِهِ مِن حَيْثُ إنَّهم لَمْ يَنْفَعُوا أنْفُسَهم بِهَذا المَجِيءِ، ولِأنَّ في هَذا التَّأْكِيدِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ مُرادًا بِهِ الإيماءُ إلى اقْتِرابِ الرَّحِيلِ؛ لِأنَّهُ لَمّا أُعِيدَ الإخْبارُ بِمَجِيئِهِ وهو حاصِلٌ مُنْذُ أعْوامٍ طَوِيلَةٍ كانَ ذَلِكَ كِنايَةً عَنِ اقْتِرابِ انْتِهائِهِ، وهو تَسْجِيلٌ مِنهُ عَلى المُؤْمِنِينَ، وإيداعٌ لِلْمُنافِقِينَ ومَن بَقِيَ مِنَ المُشْرِكِينَ. عَلى أنَّ آياتٍ أُخْرى خُوطِبَ بِها أهْلُ الكِتابِ ونَحْوُهم فَأُكِّدَتْ بِأقَلَّ مِن هَذا التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ - تَعالى: ﴿يا أهْلَ الكِتابِ قَدْ جاءَكم رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكم كَثِيرًا مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتابِ ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكم مِنَ اللَّهِ نُورٌ وكِتابٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: ١٥] وكَقَوْلِهِ - تَعالى - ﴿يا أيُّها النّاسُ قَدْ جاءَكم بُرْهانٌ مِن رَبِّكم وأنْزَلْنا إلَيْكم نُورًا مُبِينًا﴾ [النساء: ١٧٤] فَما زِيدَتِ الجُمْلَةُ في هَذِهِ السُّورَةِ مُؤَكِّدَةً إلّا لِغَرَضٍ أهَمَّ مِن إزالَةِ الإنْكارِ.

والمَجِيءُ: مُسْتَعْمَلٌ مَجازًا في الخِطابِ بِالدَّعْوَةِ إلى الدِّينِ. شُبِّهَ تَوَجُّهُهُ إلَيْهِمْ بِالخِطابِ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا يَتَرَقَّبُونَهُ بِمَجِيءِ الوافِدِ إلى النّاسِ مِن مَكانٍ آخَرَ. وهو اسْتِعْمالٌ شائِعٌ في القُرْآنِ.

والأنْفُسُ: جَمْعُ نَفْسٍ، وهي الذّاتُ. ويُضافُ النَّفْسُ إلى الضَّمِيرِ فَيَدُلُّ عَلى قَبِيلَةٍ مُعادُ الضَّمِيرِ، أيْ هو مَعْدُودٌ مِن ذَوِي نَسَبِهِمْ ولَيْسَ عِدادُهُ فِيهِمْ بِحِلْفٍ أوْ ولاءٍ أوْ إلْصاقٍ. يُقالُ: هو قُرَيْشِيٌّ مِن أنْفُسِهِمْ، ويُقالُ: القُرَيْشِيُّ مَوْلاهم أوْ حَلِيفُهم، فَمَعْنى مِن أنْفُسِكم مِن صَمِيمِ نَسَبِكم، فَتَعَيَّنَ أنَّ الخِطابَ لِلْعَرَبِ لِأنَّ النّازِلَ بَيْنَهُمُ القُرْآنُ يَوْمَئِذٍ لا يَعُدُّونَ العَرَبَ ومَن حالَفَهم وتَوَلّاهم مِثْلَ سَلْمانَ الفارِسِيِّ وبِلالٍ الحَبَشِيِّ، وفِيهِ امْتِنانٌ عَلى العَرَبِ وتَنْبِيهٌ عَلى فَضِيلَتِهِمْ، وفِيهِ أيْضًا تَعْرِيضٌ بِتَحْرِيضِهِمْ عَلى اتِّباعِهِ وتَرْكِ مُناوَأتِهِ وأنَّ الأجْدَرَ بِهِمُ الِافْتِخارُ بِهِ والِالتِفافُ حَوْلَهُ كَما قالَ - تَعالى - في ذِكْرِ القُرْآنِ ﴿وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ولِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: ٤٤] أيْ يَبْقى مِنهُ لَكم ذِكْرٌ حَسَنٌ.

صفحة ٧٢

والعَزِيزُ: الغالِبُ. والعِزَّةُ: الغَلَبَةُ. يُقالُ عَزَّهُ إذا غَلَبَهُ. ومِنهُ ﴿وعَزَّنِي في الخِطابِ﴾ [ص: ٢٣]، فَإذا عُدِّيَ بـِ (عَلى) دَلَّ عَلى مَعْنى الثِّقَلِ والشِّدَّةِ عَلى النَّفْسِ. قالَ بِشْرُ بْنُ عَوانَةَ في ذِكْرِ قَتْلِهِ الأسَدَ ومُصارَعَتِهِ إيّاهُ:

فَقُلْتُ لَهُ يَعِزُّ عَلِيَّ أنِّـي قَتَلْتُ مُناسِبِي جَلَدًا وقَهْرا

و(ما) مَصْدَرِيَّةٌ.

وعَنِتُّمْ: تَعِبْتُمْ. والعَنَتُ: التَّعَبُ، أيْ شاقٌّ عَلَيْهِ حُزْنُكم وشَقاؤُكم. وهَذا كَقَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أن لا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٣] وذُكِرَ هَذا في صِفَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - يُفِيدُ أنَّ هَذا خُلُقٌ لَهُ فَيَكُونُ أثَرُ ظُهُورِهِ الرِّفْقَ بِالأُمَّةِ والحَذَرَ مِمّا يُلْقِي بِهِمْ إلى العَذابِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. ومِن آثارِ ذَلِكَ شَفاعَتُهُ لِلنّاسِ كُلِّهِمْ في المَوْقِفِ لِتَعْجِيلِ الحِسابِ. ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ يُومِئُ إلى أنَّ شَرْعَهُ جاءَ مُناسِبًا لِخُلُقِهِ فانْتَفى عَنْهُ الحَرَجُ والعُسْرُ قالَ - تَعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] وقالَ ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨] .

والعُدُولُ عَنِ الإتْيانِ بِلَفْظِ العَنَتِ الَّذِي هو المَصْدَرُ الصَّرِيحُ إلى الإتْيانِ بِالفِعْلِ مَعَ (ما) المَصْدَرِيَّةِ السّابِكَةِ لِلْمَصْدَرِ نُكْتَةٌ. وهي إفادَةُ أنَّهُ قَدْ عَزَّ عَلَيْهِ عَنَتُهُمُ الحاصِلُ في الزَّمَنِ الَّذِي مَضى، وذَلِكَ بِما لَقُوهُ مِن قَتْلِ قَوْمِهِمْ، ومِنَ الأسْرِ في الغَزَواتِ، ومِن قَوارِعِ الوَعِيدِ والتَّهْدِيدِ في القُرْآنِ. فَلَوْ أُتِيَ بِالمَصْدَرِ لَمْ يَكُنْ مُشِيرًا إلى عَنَتٍ مُعَيَّنٍ ولا إلى عَنَتٍ وقَعَ لِأنَّ المَصْدَرَ لا زَمانَ لَهُ بَلْ كانَ مُحْتَمِلًا أنْ يَعِزَّ عَلَيْهِ بِأنْ يُجَنِّبَهم إيّاهُ، ولَكِنَّ مَجِيءَ المَصْدَرِ مُنْسَبِكًا مِنَ الفِعْلِ الماضِي يَجْعَلُهُ مَصْدَرًا مُقَيَّدًا بِالحُصُولِ في الماضِي، ألاَ تَرى أنَّكَ تُقَدِّرُهُ هَكَذا: عَزِيزٌ عَلَيْهِ عَنَتُكُمُ الحاصِلُ في ما مَضى، لِتَكُونَ هَذِهِ الآيَةُ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ ما لَقُوهُ مِنَ الشِّدَّةِ إنَّما هو لِاسْتِصْلاحِ حالِهِمْ لَعَلَّهم يُخْفِضُونَ بَعْدَها مِن غُلْوائِهِمْ ويَرْعَوُونَ عَنْ غَيِّهِمْ ويَشْعُرُونَ بِصَلاحِ أمْرِهِمْ.

والحِرْصُ: شِدَّةُ الرَّغْبَةِ في الشَّيْءِ والجَشَعِ إلَيْهِ. ولَمّا تَعَدّى إلى ضَمِيرِ المُخاطَبِينَ الدّالِّ عَلى الذَّواتِ ولَيْسَتِ الذَّواتُ هي مُتَعَلِّقُ الحِرْصِ هُنا تَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضافٍ فُهِمَ مِن مَقامِ التَّشْرِيعِ، فَيُقَدَّرُ: عَلى إيمانِكم أوْ هَدْيِكم.

صفحة ٧٣

والرَّءُوفُ: الشَّدِيدُ الرَّأْفَةِ. والرَّحِيمُ: الشَّدِيدُ الرَّحْمَةِ؛ لِأنَّهُما صِيغَتا مُبالَغَةٍ، وهُما يَتَنازَعانِ المَجْرُورَ المُتَعَلِّقَ بِهِما وهو (بِالمُؤْمِنِينَ) .

والرَّأْفَةُ: رِقَّةٌ تَنْشَأُ عِنْدَ حُدُوثِ ضُرٍّ بِالمَرْءُوفِ بِهِ. يُقالُ: رَءُوفٌ رَحِيمٌ. والرَّحْمَةُ: رِقَّةٌ تَقْتَضِي الإحْسانَ لِلْمَرْحُومِ، بَيْنَهُما عُمُومٌ وخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، ولِذَلِكَ جُمِعَ بَيْنَهُما هُنا ولَوازِمُهُما مُخْتَلِفَةٌ. وتَقَدَّمَتِ الرَّأْفَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكم إنَّ اللَّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٤٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ. والرَّحْمَةُ في سُورَةِ الفاتِحَةِ.

وتَقْدِيمُ المُتَعَلِّقِ عَلى عامِلَيْهِ المُتَنازِعَيْنِهِ في قَوْلِهِ: ﴿بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ لِلِاهْتِمامِ بِالمُؤْمِنِينَ في تَوَجُّهِ صِفَتَيْ رَأْفَتِهِ ورَحْمَتِهِ بِهِمْ. وأمّا رَحْمَتُهُ العامَّةُ الثّابِتَةُ بِقَوْلِهِ - تَعالى: ﴿وما أرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] فَهي رَحْمَةٌ مَشُوبَةٌ بِشِدَّةٍ عَلى غَيْرِ المُؤْمِنِينَ فَهو بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ المُؤْمِنِينَ رائِفٌ وراحِمٌ، ولا يُقالُ: بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.

والفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا﴾ لِلتَّفْرِيعِ عَلى إرْسالِ النَّبِيءِ ﷺ صاحِبِ هَذِهِ الصِّفاتِ إلَيْهِمْ، فَإنَّ صِفاتِهِ المَذْكُورَةَ تَقْتَضِي مِن كُلِّ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ مِنَ العَرَبِ الإيمانَ بِهِ واتِّباعَهُ لِأنَّهُ مِن أنْفُسِهِمْ ومُحِبٌّ لِخَيْرِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ بِمَن يَتْبَعُهُ مِنهم، فَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ أنَّهم مَحْقُوقُونَ بِالإيمانِ بِهِ فَإنْ آمَنُوا فَذاكَ، وإنْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَإنَّ اللَّهَ حَسِيبُهُ وكافِيهِ. وقَدْ دَلَّ الشَّرْطُ عَلى مُقابِلِهِ لِأنَّ ”فَإنْ تَوَلَّوْا“ يَدُلُّ عَلى تَقْدِيرِ ضِدِّهِ وهو إنْ أذْعَنُوا بِالإيمانِ.

وبَعْدَ التَّفْرِيعِ التَفَتَ الكَلامُ مِن خِطابِ العَرَبِ إلى خِطابِ النَّبِيءِ ﷺ بِما كانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يُخاطَبُوا هم بِهِ اعْتِمادًا عَلى قَرِينَةِ حَرْفِ التَّفْرِيعِ فَقِيلَ لَهُ ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ﴾ . والتَّقْدِيرُ: فَإنْ تَوَلَّيْتُمْ عَنْهُ فَحَسْبُهُ اللَّهُ وقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ.

فَجِيءَ بِهَذا النَّظْمِ البَدِيعِ الإيجازِ مَعَ ما فِيهِ مِن بَراعَةِ الإيماءِ إلى عَدَمِ تَأهُّلِهِمْ لِخِطابِ اللَّهِ عَلى تَقْدِيرِ حالَةِ تَوَلِّيهِمْ.

والتَّوَلِّي: الإعْراضُ والإدْبارُ: وهو مُسْتَعارٌ هُنا لِلْمُكابَرَةِ والعِنادِ.

صفحة ٧٤

والحَسْبُ: الكافِي، أيْ كافِيكَ شَرَّ إعْراضِهِمْ لِأنَّهم إنْ أعْرَضُوا بَعْدَ هَذا فَقَدَ أعْرَضُوا عَنْ حَسَدٍ وحَنَقٍ. وتِلْكَ حالَةُ مَظِنَّةِ السَّعْيِ في الكَيْدِ والأذى.

ومَعْنى الأمْرِ بِأنْ يَقُولَ حَسْبِيَ اللَّهُ أنْ يَقُولَ ذَلِكَ قَوْلًا ناشِئًا عَنْ عَقْدِ القَلْبِ عَلَيْهِ، أيْ فاعْلَمْ أنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ وقُلْ حَسْبِي اللَّهُ؛ لِأنَّ القَوْلَ يُؤَكِّدُ المَعْلُومَ ويُرَسِّخُهُ في نَفْسِ العالِمِ بِهِ، ولِأنَّ في هَذا القَوْلِ إبْلاغًا لِلْمُعْرِضِينَ عَنْهُ بِأنَّ اللَّهَ كافِيهِ إيّاهم.

والتَّوَكُّلُ: التَّفْوِيضُ. وهو مُبالَغَةٌ في وكَلَ.

وهَذِهِ الآيَةُ تُفِيدُ التَّنْوِيهَ بِهَذِهِ الكَلِمَةِ المُبارَكَةِ لِأنَّهُ أُمِرَ بِأنْ يَقُولَ هَذِهِ الكَلِمَةَ بِعَيْنِها ولَمْ يُؤْمَرْ بِمُجَرَّدِ التَّوَكُّلِ كَما أُمِرَ في قَوْلِهِ: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ إنَّكَ عَلى الحَقِّ المُبِينِ﴾ [النمل: ٧٩] .

ولا أُخْبِرَ بِأنَّ اللَّهَ حَسْبُهُ مُجَرَّدَ إخْبارٍ كَما في قَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾ [الأنفال: ٦٢] .

وجُمْلَةُ ﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلثَّناءِ، أوْ في مَوْضِعِ الحالِ وهي ثَناءٌ بِالوَحْدانِيَّةِ.

وعُطِفَتْ عَلَيْها جُمْلَةُ ﴿وهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ﴾ لِلثَّناءِ بِعَظِيمِ القُدْرَةِ لِأنَّ مَن كانَ رَبًّا لِلْعَرْشِ العَظِيمِ ثَبَتَ أنَّهُ قَدِيرٌ؛ لِأنَّهُ قَدِ اشْتُهِرَ أنَّ العَرْشَ أعْظَمُ المَخْلُوقاتِ، ولِذَلِكَ وُصِفَ بِالعَظِيمِ، فالعَظِيمُ في هَذِهِ الآيَةِ صِفَةٌ لِلْعَرْشِ، فَهو مَجْرُورٌ.

وفِي هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ إشْعارٌ بِالإيداعِ والإعْذارِ لِلنّاسِ، وتَنْبِيهٌ إلى المُبادَرَةِ بِاغْتِنامِ وُجُودِ الرَّسُولِ ﷺ بَيْنَ أظْهُرِهِمْ لِيَتَشَرَّفُوا بِالإيمانِ بِهِ وهم يُشاهِدُونَهُ ويَقْتَبِسُونَ مِن أنْوارِ هَدْيِهِ؛ لِأنَّ الِاهْتِداءَ بِمُشاهَدَتِهِ والتَّلَقِّيَ مِنهُ أرْجى لِحُصُولِ كَمالِ الإيمانِ والِانْتِفاعِ بِقَلِيلٍ مِنَ الزَّمانِ لِتَحْصِيلِ وافِرِ الخَيْرِ الَّذِي لا يُحْصَلُ مِثْلُهُ في أضْعافِ ذَلِكَ الزَّمانِ.

وفِيهِما أيْضًا إيماءٌ إلى اقْتِرابِ أجْلِ النَّبِيءِ ﷺ لِأنَّ التَّذْكِيرَ بِقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ﴾ يُؤْذِنُ بِأنَّ هَذا المَجِيءَ الَّذِي مَضى عَلَيْهِ زَمَنٌ طَوِيلٌ يُوشِكُ أنْ يَنْقَضِيَ؛ لِأنَّ لِكُلِّ وارِدٍ قُفُولًا، ولِكُلِّ طالِعٍ أُفُولًا. وقَدْ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وقَتادَةَ أنَّ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ هُما أحْدَثُ القُرْآنِ عَهْدًا بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، أيْ آخِرَ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ.

صفحة ٧٥

وقِيلَ: إنَّ آخِرَ القُرْآنِ نُزُولًا آيَةُ الكَلالَةِ خاتِمَةُ سُورَةِ النِّساءِ. وقِيلَ آخِرُهُ نُزُولًا قَوْلُهُ: ﴿واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٨١] مِن سُورَةِ البَقَرَةِ.

فِي صَحِيحِ البُخارِيِّ مِن طَرِيقِ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ السَّبّاقِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ في حَدِيثِ جَمْعِ القُرْآنِ في زَمَنِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ زَيْدٌ: ”حَتّى وجَدْتُ مِن سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الأنْصارِيِّ لَمْ أجِدْهُما مَعَ أحَدٍ غَيْرِهِ ﴿لَقَدْ جاءَكم رَسُولٌ مِن أنْفُسِكم عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾“ إلى آخِرِهِما. ومِن طَرِيقِ إبْراهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَعَ أبِي خُزَيْمَةَ الأنْصارِيِّ. ومَعْنى ذَلِكَ أنَّهُ بَحَثَ عَنْ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ في ما هو مَكْتُوبٌ مِنَ القُرْآنِ فَلَمْ يَجِدْهُما وهو يَعْلَمُ أنَّ في آخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ خاتِمَتَيْنِ أوْ هو يَحْفَظُهُما (فَإنَّ زَيْدًا اعْتَنى في جَمْعِ القُرْآنِ بِحِفْظِهِ وبِتَتَبُّعِ ما هو مَكْتُوبٌ بِإمْلاءِ النَّبِيءِ ﷺ وبِقِراءَةِ حُفّاظِ القُرْآنِ غَيْرَهُ) فَوَجَدَ خُزَيْمَةَ أوْ أبا خُزَيْمَةَ يَحْفَظُهُما. فَلَمّا أمْلاهُما خُزَيْمَةُ أوْ أبُو خُزَيْمَةَ عَلَيْهِ تَذَكَّرَ زَيْدٌ لَفْظَهُما وتَذَكَّرَهُما مَن سَمِعَهُما مِنَ الصَّحابَةِ حِينَ قَرَءُوهُما، كَيْفَ وقَدْ قالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: إنَّهُما آخِرُ ما أُنْزِلَ، فَلَفْظُهُما ثابِتٌ بِالإجْماعِ، وتَواتُرُهُما حاصِلٌ إذْ لَمْ يَشُكُّ فِيهِما أحَدٌ ولَيْسَ إثْباتُهُما قاصِرًا عَلى إخْبارِ خُزَيْمَةَ أوْ أبِي خُزَيْمَةَ.

* * *

صفحة ٧٦

صفحة ٧٧

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ يُونُسَ

سُمِّيَتْ في المَصاحِفِ وفي كُتُبِ التَّفْسِيرِ والسُّنَّةِ سُورَةَ يُونُسَ لِأنَّها انْفَرَدَتْ بِذِكْرِ خُصُوصِيَّةٍ لِقَوْمِ يُونُسَ، أنَّهم آمَنُوا بَعْدَ أنْ تَوَعَّدَهم رَسُولُهم بِنُزُولِ العَذابِ فَعَفا اللَّهُ عَنْهم لَمّا آمَنُوا. وذَلِكَ في قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها إلّا قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهم عَذابَ الخِزْيِ في الحَياةِ الدُّنْيا ومَتَّعْناهم إلى حِينٍ﴾ [يونس: ٩٨] . وتِلْكَ الخُصُوصِيَّةُ كَرامَةٌ لِيُونُسَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ولَيْسَ فِيها ذِكْرٌ لِيُونُسَ غَيْرَ ذَلِكَ. وقَدْ ذُكِرَ يُونُسُ في سُورَةِ الصّافّاتِ بِأوْسَعَ مِمّا في هَذِهِ السُّورَةِ ولَكِنَّ وجْهَ التَّسْمِيَةِ لا يُوجِبُها.

والأظْهَرُ عِنْدِي أنَّها أُضِيفَتْ إلى يُونُسَ تَمْيِيزًا لَها عَنْ أخَواتِها الأرْبَعِ المُفْتَتَحَةِ بِـ (﴿الر﴾ [يونس: ١]) . ولِذَلِكَ أُضِيفَتْ كُلُّ واحِدَةٍ مِنها إلى نَبِيءٍ أوْ قَوْمِ نَبِيءٍ عِوَضًا عَنْ أنْ يُقالَ: (﴿الر﴾ [يونس: ١]) الأُولى و(﴿الر﴾ [يونس: ١]) الثّانِيَةُ. وهَكَذا فَإنَّ اشْتِهارَ السُّوَرِ بِأسْمائِها أوَّلُ ما يَشِيعُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ بِأُولى الكَلِماتِ الَّتِي تَقَعُ فِيها وخاصَّةً إذا كانَتْ فَواتِحُها حُرُوفًا مُقَطَّعَةً فَكانُوا يَدْعُونَ تِلْكَ السُّوَرَ بِآلِـ (حم) وآلِـ (الر) ونَحْوِ ذَلِكَ.

وهِيَ مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ الجُمْهُورِ. وهو المَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في الأصَحِّ عَنْهُ. وفي الإتْقانِ عَنْ عَطاءٍ عَنْهُ أنَّها مَدَنِيَّةٌ. وفي القُرْطُبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ ثَلاثَ آياتٍ مِنها مَدَنِيَّةٌ وهي قَوْلُهُ - تَعالى: ﴿فَإنْ كُنْتَ في شَكٍّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ﴾ [يونس: ٩٤] إلى قَوْلِهِ ﴿حَتّى يَرَوُا العَذابَ الألِيمَ﴾ [يونس: ٨٨] وجَزَمَ بِذَلِكَ القُمِّيُّ النَّيْسابُورِيُّ. وفي ابْنِ عَطِيَّةَ عَنْ مُقاتِلٍ إلّا آيَتَيْنِ مَدَنِيَّتَيْنِ هُما (فَإنْ كُنْتَ في شَكٍّ) إلى قَوْلِهِ (مِنَ الخاسِرِينَ) . وفِيهِ عَنِ الكَلْبِيِّ أنَّ آيَةً واحِدَةً نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ وهي قَوْلُهُ - تَعالى: (﴿ومِنهم مَن يُؤْمِنُ بِهِ﴾ [يونس: ٤٠]) إلى (أعْلَمُ بِالمُفْسِدِينَ) نَزَلَتْ في شَأْنِ اليَهُودِ.

صفحة ٧٨

وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قالَتْ فِرْقَةٌ: نَزَلَ نَحْوٌ مِن أرْبَعِينَ آيَةً مِن أوَّلِها بِمَكَّةَ ونَزَلَ باقِيها بِالمَدِينَةِ. ولَمْ يَنْسُبْهُ إلى مُعَيَّنٍ. وأحْسَبُ أنَّ هَذِهِ الأقْوالَ ناشِئَةٌ عَنْ ظَنِّ أنَّ ما في القُرْآنِ مِن مُجادَلَةٍ مَعَ أهْلِ الكِتابِ لَمْ يَنْزِلْ إلّا بِالمَدِينَةِ، فَإنْ كانَ كَذَلِكَ فَظَنُّ هَؤُلاءِ مُخْطِئٌ. وسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ.

وعَدَدُ آيِها مِائَةٌ وتِسْعُ آياتٍ في عَدِّ أكْثَرِ الأمْصارِ، ومِائَةٌ وعَشْرٌ في عَدِّ أهْلِ الشّامِ.

وهِيَ السُّورَةُ الحادِيَةُ والخَمْسُونَ في تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ بَنِي إسْرائِيلَ وقَبْلَ سُورَةِ هُودٍ. وأحْسَبُ أنَّها نَزَلَتْ سَنَةَ إحْدى عَشْرَةَ بَعْدَ البِعْثَةِ لِما سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿وإذا أذَقْنا النّاسَ رَحْمَةً مِن بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهم إذا لَهم مَكْرٌ في آياتِنا﴾ [يونس: ٢١] .

* * *

مِن أغْراضِ هَذِهِ السُّورَةِ

ابْتُدِئَتْ بِمَقْصِدِ إثْباتِ رِسالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِدَلالَةِ عَجْزِ المُشْرِكِينَ عَنْ مُعارَضَةِ القُرْآنِ، دَلالَةً نُبِّهَ عَلَيْها بِأُسْلُوبٍ تَعْرِيضِيٍّ دَقِيقٍ بُنِي عَلى الكِنايَةِ بِتَهْجِيَةِ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ في أوَّلِ السُّورَةِ كَما تَقَدَّمَ في مُفْتَتَحِ سُورَةِ البَقَرَةِ، ولِذَلِكَ أُتْبِعَتْ تِلْكَ الحُرُوفُ بِقَوْلِهِ - تَعالى: ﴿تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ﴾ [يونس: ١] إشارَةً إلى أنَّ إعْجازَهُ لَهم هو الدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ. وقَدْ جاءَ التَّصْرِيحُ بِما كُنِيَ عَنْهُ هُنا في قَوْلِهِ: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾ [يونس: ٣٨] .

وأُتْبِعَ بِإثْباتِ رِسالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وإبْطالِ إحالَةِ المُشْرِكِينَ أنْ يُرْسِلَ اللَّهُ رَسُولًا بَشَرًا.

وانْتُقِلَ مِن ذَلِكَ إلى إثْباتِ انْفِرادِ اللَّهِ - تَعالى - بِالإلَهِيَّةِ بِدَلالَةِ أنَّهُ خالِقُ العالَمِ ومُدَبِّرُهُ، فَأفْضى ذَلِكَ إلى إبْطالِ أنْ يَكُونَ لِلَّهِ شُرَكاءُ في إلَهِيَّتِهِ، وإلى إبْطالِ مَعاذِيرِ المُشْرِكِينَ بِأنَّ أصْنامَهم شُفَعاءُ عِنْدَ اللَّهِ.

صفحة ٧٩

وأُتْبِعَ ذَلِكَ بِإثْباتِ الحَشْرِ والجَزاءِ. فَذَلِكَ إبْطالُ أُصُولِ الشِّرْكِ.

وتَخَلَّلَ ذَلِكَ بِذِكْرِ دَلائِلَ مِنَ المَخْلُوقاتِ، وبَيانِ حِكْمَةِ الجَزاءِ، وصِفَةِ الجَزاءِ، وما في دَلائِلِ المَخْلُوقاتِ مِن حِكَمٍ ومَنافِعَ لِلنّاسِ، ووَعِيدِ مُنْكِرِي البَعْثِ المُعْرِضِينَ عَنْ آياتِ اللَّهِ، وبِضِدِّ أُولَئِكَ وُعِدَ الَّذِينَ آمَنُوا. فَكانَ مُعْظَمُ هَذِهِ السُّورَةِ يَدُورُ حَوْلَ مِحْوَرِ تَقْرِيرِ هَذِهِ الأُصُولِ.

فَمِن ذَلِكَ التَّنْبِيهِ عَلى أنَّ إمْهالَ اللَّهِ - تَعالى - الكافِرِينَ دُونَ تَعْجِيلِ العَذابِ هو حِكْمَةٌ مِنهُ.

ومِن ذَلِكَ التَّذْكِيرُ بِما حَلَّ بِأهْلِ القُرُونِ الماضِيَةِ لَمّا أشْرَكُوا وكَذَّبُوا الرُّسُلَ.

والِاعْتِبارُ بِما خَلَقَ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن مَواهِبِ القُدْرَةِ عَلى السَّيْرِ في البَرِّ والبَحْرِ، وما في أحْوالِ السَّيْرِ في البَحْرِ مِنَ الألْطافِ.

وضَرْبُ المَثَلِ لِلدُّنْيا وبَهْجَتِها وزَوالِها، وأنَّ الآخِرَةَ هي دارُ السَّلامِ.

واخْتِلافُ أحْوالِ المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ في الآخِرَةِ، وتَبَرُّؤُ الآلِهَةِ الباطِلَةِ مِن عَبَدَتِها.

وإبْطالُ إلَهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعالى، بِدَلِيلِ أنَّها لا تُغْنِي عَنِ النّاسِ شَيْئًا في الدُّنْيا ولا في الآخِرَةِ.

وإثْباتُ أنَّ القُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ، وأنَّ الدَّلائِلَ عَلى بُطْلانِ أنْ يَكُونَ مُفْتَرًى واضِحَةٌ.

وتَحَدِّي المُشْرِكِينَ بِأنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، ولَكِنَّ الضَّلالَةَ أعْمَتْ أبْصارَ المُعانِدِينَ.

وإنْذارُ المُشْرِكِينَ بِعَواقِبِ ما حَلَّ بِالأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ بِالرُّسُلِ، وأنَّهم إنْ حَلَّ بِهِمُ العَذابُ لا يَنْفَعُهم إيمانُهم، وأنَّ ذَلِكَ لَمْ يَلْحَقْ قَوْمَ يُونُسَ لِمُصادَفَةِ مُبادَرَتِهِمْ بِالإيمانِ قَبْلَ حُلُولِ العَذابِ.

وتَوْبِيخُ المُشْرِكِينَ عَلى ما حَرَّمُوهُ مِمّا أحَلَّ اللَّهُ مِنَ الرِّزْقِ.

وإثْباتُ عُمُومِ العِلْمِ لِلَّهِ تَعالى.

صفحة ٨٠

وتَبْشِيرُ أوْلِياءِ اللَّهِ في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ.

وتَسْلِيَةُ الرَّسُولِ عَمّا يَقُولُهُ الكافِرُونَ.

وأنَّهُ لَوْ شاءَ لَآمَنَ مَن في الأرْضِ كُلُّهم.

ثُمَّ تَخْلُصُ إلى الِاعْتِبارِ بِالرُّسُلِ السّابِقِينَ نُوحٍ ورُسُلٍ مِن بَعْدِهِ ثُمَّ مُوسى وهارُونَ.

ثُمَّ اسْتُشْهِدَ عَلى صِدْقِ رِسالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِشَهادَةِ أهْلِ الكِتابِ.

وخُتِمَتِ السُّورَةُ بِتَلْقِينِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - مِمّا يَعْذُرُ بِهِ لِأهْلِ الشَّكِّ في دِينِ الإسْلامِ، وأنَّ اهْتِداءَ مَنِ اهْتَدى لِنَفْسِهِ وضَلالَ مَن ضَلَّ عَلَيْها، وأنَّ اللَّهَ سَيَحْكُمُ بَيْنَهُ وبَيْنَ مُعانَدِيهِ.