صفحة ٩٠

﴿إلَيْهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا وعْدَ اللَّهِ حَقًّا إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالقِسْطِ والَّذِينَ كَفَرُوا لَهم شَرابٌ مِن حَمِيمٍ وعَذابٌ ألِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ﴾

وقَعَ أمْرُهم بِعِبادَتِهِ عَقِبَ ذِكْرِ الجَزاءِ إنْذارًا وتَبْشِيرًا، فالجُمْلَةُ كالدَّلِيلِ عَلى وُجُوبِ عِبادَتِهِ، وهي بِمَنزِلَةِ النَّتِيجَةِ النّاشِئَةِ عَنْ إثْباتِ خَلْقِهِ السَّماواتِ والأرْضَ لِأنَّ الَّذِي خَلَقَ مِثْلَ تِلْكَ العَوالِمِ مِن غَيْرِ سابِقِ وُجُودٍ لا يُعْجِزُهُ أنْ يُعِيدَ بَعْضَ المَوْجُوداتِ الكائِنَةِ في تِلْكَ العَوالِمِ خَلْقًا ثانِيًا. ومِمّا يُشِيرُ إلى هَذا قَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾، فَبَدْءُ الخَلْقِ هو ما سَبَقَ ذِكْرُهُ، وإعادَتُهُ هي ما أفادَهُ قَوْلُهُ: ﴿إلَيْهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا﴾ ولِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَها لِما بَيْنَهُما مِن شِبْهِ كَمالِ الِاتِّصالِ، عَلى أنَّها يَجُوزُ كَوْنُها خَبَرًا آخَرَ عَنْ قَوْلِهِ: ”إنَّ رَبَّكم“، أوْ عَنْ قَوْلِهِ: ”ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم“

وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ إثْباتَ الحَشْرِ الَّذِي أنْكَرُوهُ وكَذَّبُوا النَّبِيءَ ﷺ لِأجْلِهِ.

وفِي تَقْدِيمِ المَجْرُورِ في قَوْلِهِ: إلَيْهِ مَرْجِعُكم إفادَةُ القَصْرِ، أيْ لا إلى غَيْرِهِ، قَطْعًا لِمَطامِعِ بَعْضِهِمُ القائِلِينَ في آلِهَتِهِمْ ﴿هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: ١٨] يُرِيدُونَ أنَّهم شُفَعاءُ عَلى تَسْلِيمِ وُقُوعِ البَعْثِ لِلْجَزاءِ، فَإذا كانَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ لا إلى غَيْرِهِ كانَ حَقِيقًا بِالعِبادَةِ وكانَتْ عِبادَةُ غَيْرِهِ باطِلًا.

والمَرْجِعُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنى الرُّجُوعِ. وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿إلى اللَّهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ١٠٥] في سُورَةِ العُقُودِ.

و(جَمِيعًا) حالٌ مِن ضَمِيرِ المُخاطَبِينَ المُضافِ إلَيْهِ المَصْدَرُ العامِلُ فِيهِ.

وانْتَصَبَ (وعْدَ اللَّهِ) عَلى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ تَوْكِيدًا لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ المُساوِيَةِ لَهُ، ويُسَمّى مُؤَكِّدًا لِنَفْسِهِ في اصْطِلاحِ النُّحاةِ؛ لِأنَّ مَضْمُونَ إلَيْهِ مَرْجِعُكُمُ الوَعْدُ بِإرْجاعِهِمْ

صفحة ٩١

إلَيْهِ وهو مُفادُ وعْدِ اللَّهِ، ويُقَدَّرُ لَهُ عامِلٌ مَحْذُوفٌ لِأنَّ الجُمْلَةَ المُؤَكِّدَةَ لا تَصْلُحُ لِلْعَمَلِ فِيهِ. والتَّقْدِيرُ: وعَدَكُمُ اللَّهُ وعْدًا حَقًّا.

وانْتُصِبَ (حَقًّا) عَلى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ المُؤَكِّدَةِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ (وعْدَ اللَّهِ) بِاعْتِبارِ الفِعْلِ المَحْذُوفِ. ويُسَمّى في اصْطِلاحِ النُّحاةِ مُؤَكِّدًا لِغَيْرِهِ، أيْ مُؤَكِّدًا لِأحَدِ مَعْنَيَيْنِ تَحْتَمِلُهُما الجُمْلَةُ المُؤَكَّدَةُ.

وجُمْلَةُ (إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ) واقِعَةٌ مَوْقِعَ الدَّلِيلِ عَلى وُقُوعِ البَعْثِ وإمْكانِهِ بِأنَّهُ قَدِ ابْتَدَأ خَلْقَ النّاسِ، وابْتِداءُ خَلْقِهِمْ يَدُلُّ عَلى إمْكانِ إعادَةِ خَلْقِهِمْ بَعْدَ العَدَمِ، وثُبُوتُ إمْكانِهِ يَدْفَعُ تَكْذِيبَ المُشْرِكِينَ بِهِ، فَكانَ إمْكانُهُ دَلِيلًا لِقَوْلِهِ: ﴿إلَيْهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا﴾، وكانَ الِاسْتِدْلالُ عَلى إمْكانِهِ حاصِلًا مِن تَقْدِيمِ التَّذْكِيرِ بِبَدْءِ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ كَقَوْلِهِ - تَعالى -: ﴿وهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهو أهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: ٢٧]

ومَوْقِعُ (إنَّ) تَأْكِيدُ الخَبَرِ نَظَرًا لِإنْكارِهِمُ البَعْثَ، فَحَصَلَ التَّأْكِيدُ مِن قَوْلِهِ: (ثُمَّ يُعِيدُهُ) أمّا كَوْنُهُ بَدَأ الخَلْقَ فَلا يُنْكِرُونَهُ.

وقَرَأ الجُمْهُورُ ”﴿إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ﴾“ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إنَّهُ. وقَرَأهُ أبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ عَلى تَقْدِيرِ لامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةٍ، أيْ حَقٌّ وعْدُهُ بِالبَعْثِ لِأنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَلا تُعْجِزُهُ الإعادَةُ بَعْدَ الخَلْقِ الأوَّلِ، أوِ المَصْدَرُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مَنصُوبٌ بِما نُصِبَ بِهِ (وعْدَ اللَّهِ) أيْ وعَدَ اللَّهُ وعْدًا بَدْءَ الخَلْقِ ثُمَّ إعادَتَهُ فَيَكُونُ بَدَلًا مِن (وعْدَ اللَّهِ) بَدَلًا مُطابِقًا أوْ عَطْفَ بَيانٍ.

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَصْدَرُ المُنْسَبِكُ مِن أنْ وما بَعْدَها مَرْفُوعًا بِالفِعْلِ المُقَدَّرِ الَّذِي انْتَصَبَ حَقًّا بِإضْمارِهِ. فالتَّقْدِيرُ: حَقَّ حَقًّا أنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ، أيْ حَقٌّ بَدْؤُهُ الخَلْقَ ثُمَّ إعادَتُهُ.

والتَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلَخْ إبْداءً لِحِكْمَةِ البَعْثِ وهي الجَزاءُ عَلى الأعْمالِ المُقْتَرَفَةِ في الحَياةِ الدُّنْيا، إذْ لَوْ أُرْسِلَ النّاسُ عَلى أعْمالِهِمْ بِغَيْرِ جَزاءٍ عَلى الحَسَنِ والقَبِيحِ لاسْتَوى المُحْسِنُ والمُسِيءُ، ورُبَّما كانَ بَعْضُ المُسِيئِينَ في هَذِهِ الدُّنْيا أحْسَنَ فِيها حالًا

صفحة ٩٢

مِنَ المُحْسِنِينَ. فَكانَ مِنَ الحِكْمَةِ أنْ يَلْقى كُلُّ عامِلٍ جَزاءَ عَمَلِهِ. ولَمْ يَكُنْ هَذا العالَمُ صالِحًا لِإظْهارِ ذَلِكَ لِأنَّهُ وُضِعُ نِظامُهُ عَلى قاعِدَةِ الكَوْنِ والفَسادِ، قابِلًا لِوُقُوعِ ما يُخالِفُ الحَقَّ ولِصَرْفِ الخَيْراتِ عَنِ الصّالِحِينَ وانْهِيالِها عَلى المُفْسِدِينَ والعَكْسُ لِأسْبابٍ وآثارٍ هي أوْفَقُ بِالحَياةِ المُقَرَّرَةِ في هَذا العالَمِ، فَكانَتِ الحِكْمَةُ قاضِيَةً بِوُجُودِ عالَمٍ آخَرَ مُتَمَحِّضٌ لِلْكَوْنِ والبَقاءِ ومَوْضُوعًا فِيهِ كُلُّ صِنْفٍ فِيما يَلِيقُ بِهِ لا يَعْدُوهُ إلى غَيْرِهِ إذْ لا قِبَلَ فِيهِ لِتَصَرُّفاتٍ وتَسَبُّباتٍ تُخالِفُ الحَقَّ والِاسْتِحْقاقَ.

وقُدِّمَ جَزاءُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لِشَرَفِهِ ولِياقَتِهِ بِذَلِكَ العالَمِ، ولِأنَّهم قَدْ سَلَكُوا في عالَمِ الحَياةِ الدُّنْيا ما خَلَقَ اللَّهُ النّاسَ لِأجْلِهِ ولَمْ يَتَصَرَّفُوا فِيهِ بِتَغْلِيبِ الفَسادِ عَلى الصَّلاحِ.

والباءُ في (بِالقِسْطِ) صالِحَةٌ لِإفادَةِ مَعْنى التَّعْدِيَةِ لِفِعْلِ الجَزاءِ ومَعْنى العِوَضِ. والقِسْطُ: العَدْلُ. وهو التَّسْوِيَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ في صِفَةٍ والجَزاءُ بِما يُساوِي المُجْزى عَلَيْهِ. وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: (﴿قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨]) في أوَّلِ آلِ عِمْرانَ. فَتُفِيدُ الباءُ أنَّهم يُجْزَوْنَ بِما يُعادِلُ أعْمالَهُمُ الصّالِحَةَ فَيَكُونُ جَزاؤُهم صَلاحًا هُنالِكَ وهو غايَةُ النَّعِيمِ، وأنَّ ذَلِكَ الجَزاءَ مُكافَأةٌ عَلى قِسْطِهِمْ في أعْمالِهِمْ في عَدْلِهِمْ فِيها بِأنْ عَمِلُوا ما يُساوِي الصَّلاحَ المَقْصُودَ مِن نِظامِ هَذا العالَمِ.

والإجْمالُ هُنا بَيْنَ مَعْنَيَيِ الباءِ مُفِيدٌ لِتَعْظِيمِ شَأْنِ جَزاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ مَعَ الإشارَةِ إلى أنَّهُ جَزاءٌ مُماثِلٌ لِصَلاحِ أعْمالِهِمْ.

وإنَّما خُصَّ بِذَلِكَ جَزاءُ المُؤْمِنِينَ مَعَ أنَّ الجَزاءَ كُلَّهُ عَدْلٌ، بَلْ رُبَّما كانَتِ الزِّيادَةُ في ثَوابِ المُؤْمِنِينَ فَضْلًا زائِدًا عَلى العَدْلِ لِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما تَأْنِيسُ المُؤْمِنِينَ وإكْرامُهم بِأنَّ جَزاءَهم قَدِ اسْتَحَقُّوهُ بِما عَمِلُوا، كَقَوْلِهِ: ﴿ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٣٢] . ومِن أعْظَمِ الكَرَمِ أنْ يُوهِمَ الكَرِيمُ أنَّ ما تَفَضَّلَ بِهِ عَلى المُكَرَمِ هو حَقُّهُ وأنْ لا فَضْلَ لَهُ فِيهِ.

الأمْرُ الثّانِي الإشارَةُ إلى أنَّ جَزاءَ الكافِرِينَ دُونَ ما يَقْتَضِيهِ العَدْلُ، فَفِيهِ تَفَضُّلٌ بِضَرْبٍ مِنَ التَّخْفِيفِ لِأنَّهم لَوْ جُوِّزُوا عَلى قَدْرِ جُرْمِهِمْ لَكانَ عَذابُهم أشَدَّ، ولِأجْلِ هَذا خُولِفَ

صفحة ٩٣

الأُسْلُوبُ في ذِكْرِ جَزاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَجاءَ صَرِيحًا بِما يَعُمُّ أحْوالَ العَذابِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَهم شَرابٌ مِن حَمِيمٍ وعَذابٌ ألِيمٌ﴾ . وخُصَّ الشَّرابُ مِنَ الحَمِيمِ بِالذِّكْرِ مِن بَيْنِ أنْواعِ العَذابِ الألِيمِ لِأنَّهُ أكْرَهُ أنْواعِ العَذابِ في مَأْلُوفِ النُّفُوسِ.

وشَرابُ الحَمِيمِ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهم شَرابٌ مِن حَمِيمٍ وعَذابٌ ألِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ﴾ [الأنعام: ٧٠] في سُورَةِ الأنْعامِ. والباءُ في قَوْلِهِ: بِما كانُوا يَكْفُرُونَ لِلْعِوَضِ.

وجُمْلَةُ (والَّذِينَ كَفَرُوا) إلى آخِرِها اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لِأنَّهُ لَمّا ورَدَ ذِكْرُ جَزاءِ المُؤْمِنِينَ عَلى أنَّهُ العِلَّةُ لِرُجُوعِ الجَمِيعِ إلَيْهِ ولَمْ يُذْكَرْ في العِلَّةِ ما هو جَزاءُ الجَمِيعِ لا جَرَمَ يَتَشَوَّفُ السّامِعُ إلى مَعْرِفَةِ جَزاءِ الكافِرِينَ فَجاءَ الِاسْتِئْنافُ لِلْإعْلامِ بِذَلِكَ.

ونُكْتَةُ تَغْيِيرِ الأُسْلُوبِ حَيْثُ لَمْ يُعْطَفْ جَزاءُ الكافِرِينَ عَلى جَزاءِ المُؤْمِنِينَ فَيُقالُ: ويَجْزِيَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ إلَخْ كَما في قَوْلِهِ: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَدُنْهُ ويُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ﴾ [الكهف: ٢] هو الإشارَةُ إلى الِاهْتِمامِ بِجَزاءِ المُؤْمِنِينَ الصّالِحِينَ وأنَّهُ الَّذِي يُبادِرُ بِالإعْلامِ بِهِ وأنَّ جَزاءَ الكافِرِينَ جَدِيرٌ بِالإعْراضِ عَنْ ذِكْرِهِ لَوْلا سُؤالُ السّامِعِينَ.