﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهم ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾

عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وإذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ﴾ [يونس: ١٥] عَطْفَ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ. فَهَذِهِ قِصَّةٌ أُخْرى مِن قَصَصِ أحْوالِ كُفْرِهِمْ أنْ قالُوا ﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذا﴾ [يونس: ١٥] حِينَ تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ القُرْآنِ، ومِن كُفْرِهِمْ أنَّهم يَعْبُدُونَ الأصْنامَ ويَقُولُونَ هم شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ.

والمُناسَبَةُ بَيْنَ القِصَّتَيْنِ أنَّ في كِلْتَيْهِما كُفْرًا أظْهَرُوهُ في صُورَةِ السُّخْرِيَةِ والِاسْتِهْزاءِ وإيهامِ أنَّ العُذْرَ لَهم في الِاسْتِرْسالِ عَلى الكُفْرِ، فَلَعَلَّهم (كَما أوْهَمُوا أنَّهُ إنْ أتاهم

صفحة ١٢٥

قُرْآنٌ غَيْرُ المَتْلُوِّ عَلَيْهِمْ أوْ بُدِّلَ ما يَرُومُونَ تَبْدِيلَهُ آمَنُوا) كانُوا إذا أنْذَرَهُمُ النَّبِيءُ ﷺ بِعَذابِ اللَّهِ قالُوا: تَشْفَعُ لَنا آلِهَتُنا عِنْدَ اللَّهِ. وقَدْ رُوِيَ أنَّهُ قالَهُ النَّضْرُ بْنُ الحارِثِ (عَلى مَعْنى فَرْضِ ما لا يَقَعُ واقِعًا) ”إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ شَفَعَتْ لِيَ اللّاتُ والعُزّى“ . وهَذا كَقَوْلِ العاصِ بْنِ وائِلٍ، وكانَ مُشْرِكًا، لِخَبّابِ بْنِ الأرَتِّ، وهو مُسْلِمٌ، وقَدْ تَقاضاهُ أجْرًا لَهُ عَلى سَيْفٍ صَنَعَهُ ”إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ صاحِبُكَ (يَعْنِي النَّبِيءَ ﷺ) فَسَيَكُونُ لِي مالٌ فَأقْضِيكَ مِنهُ“ .

وفِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ - تَعالى: ﴿أفَرَأيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا ووَلَدًا﴾ [مريم: ٧٧] الآيَةَ.

ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ ويَعْبُدُونَ إلَخْ عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ ﴿فَمَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [يونس: ١٧] فَإنَّ عِبادَتَهم ما لا يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهم مِنَ الِافْتِراءِ.

وإيثارُ اسْمِ المَوْصُولِ في قَوْلِهِ: ﴿ما لا يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهُمْ﴾ لِما تُؤْذِنُ بِهِ صِلَةُ المَوْصُولِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلى أنَّهم مُخْطِئُونَ في عِبادَةِ ما لا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ، وفِيهِ تَمْهِيدٌ لِعَطْفِ ﴿ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ﴾ لِتَحْقِيرِ رَأْيِهِمْ مِن رَجاءِ الشَّفاعَةِ مِن تِلْكَ الأصْنامِ، فَإنَّها لا تَقْدِرُ عَلى ضَرٍّ ولا نَفْعٍ في الدُّنْيا فَهي أضْعَفُ مَقْدِرَةً في الآخِرَةِ.

واخْتِيارُ صِيغَةِ المُضارِعِ في يَعْبُدُونَ ويَقُولُونَ لِاسْتِحْضارِ الحالَةِ العَجِيبَةِ مِنِ اسْتِمْرارِهِمْ عَلى عِبادَتِها، أيْ عَبَدُوا الأصْنامَ ويَعْبُدُونَها تَعْجِيبًا مِن تَصْمِيمِهِمْ عَلى ضَلالِهِمْ ومِن قَوْلِهِمْ ﴿هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ﴾ فاعْتَرَفُوا بِأنَّ المُتَصَرِّفَ هو اللَّهُ.

وقُدِّمَ ذِكْرُ نَفْيِ الضَّرِّ عَلى نَفْيِ النَّفْعِ لِأنَّ المَطْلُوبَ مِنَ المُشْرِكِينَ الإقْلاعُ عَنْ عِبادَةِ الأصْنامِ وقَدْ كانَ سَدَنَتُها يُخَوِّفُونَ عَبَدَتَها بِأنَّها تُلْحِقُ بِهِمْ وبِصِبْيانِهِمُ الضُّرَّ، كَما قالَتِ امْرَأةُ طُفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدُّوسِيِّ حِينَ أخْبَرَها أنَّهُ أسْلَمَ ودَعاها إلى أنْ تُسْلِمَ فَقالَتْ: ”أما تَخْشى عَلى الصِّبْيَةِ مِن ذِي الشَّرى“ . فَأُرِيدَ الِابْتِداءُ بِنَفْيِ الضُّرِّ لِإزالَةِ أوْهامِ المُشْرِكِينَ في ذَلِكَ الصّادَّةِ لِكَثِيرٍ مِنهم عَنْ نَبْذِ عِبادَةِ الأصْنامِ.

صفحة ١٢٦

وقَدْ أمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - أنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِتَهَكُّمٍ بِهِمْ بِأنَّهم قَدْ أخْبَرُوا اللَّهَ بِأنَّ لَهم شُفَعاءَ لَهم عِنْدَهُ. ومَعْنى ذَلِكَ أنَّ هَذا لَمّا كانَ شَيْئًا اخْتَرَعُوهُ وهو غَيْرُ واقِعٍ جَعَلَ اخْتِراعَهَ بِمَنزِلَةِ أنَّهم أعْلَمُوا اللَّهَ بِهِ وكانَ لا يَعْلَمُهُ فَصارَ ذَلِكَ كِنايَةً عَنْ بُطْلانِهِ لِأنَّ ما لَمْ يَعْلَمِ اللَّهُ وُقُوعَهُ فَهو مُنْتَفٍ. ومِن هَذا قَوْلُ مَن يُرِيدُ نَفْيَ شَيْءٍ عَنْ نَفْسِهِ: ما عَلِمَ اللَّهُ هَذا مِنِّي وفي ضِدِّهِ قَوْلُهم في تَأْكِيدِ وُقُوعِ الشَّيْءِ: يَعْلَمُ اللَّهُ كَذا، حَتّى صارَ عِنْدَ العَرَبِ مِن صِيَغِ اليَمِينِ.

و﴿فِي السَّماواتِ ولا في الأرْضِ﴾ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ المَحْذُوفِ بَعْدَ يَعْلَمُ العائِدِ عَلى ما، إذِ التَّقْدِيرُ: بِما لا يَعْلَمُهُ، أيْ كائِنًا في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ. والمَقْصُودُ مِن ذِكْرِهِما تَعْمِيمُ الأمْكِنَةِ، كَما هو اسْتِعْمالُ الجَمْعِ بَيْنَ المُتَقابِلاتِ مِثْلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ.

وأُعِيدَ حَرْفُ النَّفْيِ بَعْدَ العاطِفِ لِزِيادَةِ التَّنْصِيصِ عَلى النَّفْيِ.

والِاسْتِفْهامُ في ﴿أتُنَبِّئُونَ﴾ لِلْإنْكارِ والتَّوْبِيخِ والإنْباءُ: الإعْلامُ.

وجُمْلَةُ ﴿سُبْحانَهُ وتَعالى﴾ إنْشاءُ تَنْزِيهٍ، فَهي مُنْقَطِعَةٌ عَنِ الَّتِي قَبْلَها فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يَصِفُونَ﴾ [الأنعام: ١٠٠] في سُورَةِ الأنْعامِ.

وما في قَوْلِهِ: ﴿عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ عَنْ إشْراكِهِمْ، أيْ تَعالى عَنْ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ ثابِتًا لَهُ.

وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وخَلَفٌ ”تُشْرِكُونَ“ بِالمُثَنّاةِ الفَوْقِيَّةِ عَلى أنَّهُ مِن جُمْلَةِ المَقُولِ. وقَرَأهُ الباقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلى أنَّها تَعْقِيبٌ لِلْخِطابِ بِجُمْلَةِ قُلْ. وعَلى الوَجْهَيْنِ فَهي مُسْتَحِقَّةٌ لِلْفَصْلِ لِكَمالِ الِانْقِطاعِ.