صفحة ٣١٠

﴿واتَّبِعْ ما يُوحى إلَيْكَ واصْبِرْ حَتّى يَحْكُمَ اللَّهُ وهْوَ خَيْرُ الحاكِمِينَ﴾ .

عَطْفٌ عَلى قُلْ أيْ بَلِّغِ النّاسَ ذَلِكَ القَوْلَ ﴿واتَّبِعْ ما يُوحى إلَيْكَ﴾، أيِ اتَّبِعْ في نَفْسِكَ وأصْحابِكَ ما يُوحى إلَيْكَ. واصْبِرْ أيْ عَلى مُعانَدَةِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِقَرِينَةِ الغايَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿حَتّى يَحْكُمَ اللَّهُ﴾ فَإنَّها غايَةٌ لِهَذا الصَّبْرِ الخاصِّ لا لِمُطْلَقِ الصَّبْرِ.

ولَمّا كانَ الحُكْمُ يَقْتَضِي فَرِيقَيْنِ حَذَفَ مُتَعَلِّقَهُ تَعْوِيلًا عَلى قَرِينَةِ السِّياقِ، أيْ حَتّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكَ وبَيْنَهم.

وجُمْلَةُ ﴿وهُوَ خَيْرُ الحاكِمِينَ﴾ ثَناءٌ وتَذْيِيلٌ لِما فِيهِ مِنَ العُمُومِ، أيْ وهو خَيْرُ الحاكِمِينَ بَيْنَ كُلِّ خَصْمَيْنِ في هَذِهِ القَضِيَّةِ وفي غَيْرِها، فالتَّعْرِيفُ في الحاكِمِينَ لِلِاسْتِغْراقِ بِقَرِينَةِ التَّذْيِيلِ.

وخَيْرُ تَفْضِيلٌ، أصْلُهُ أخْيَرُ فَحُذِفَتِ الهَمْزَةُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ. والأخْيَرِيَّةُ مِنَ الحاكِمِينَ أخْيَرِيَّةُ وفاءِ الإنْصافِ في إعْطاءِ الحُقُوقِ. وهي هُنا كِنايَةٌ عَنْ مُعاقَبَةِ الظّالِمِ؛ لِأنَّ الأمْرَ بِالصَّبْرِ مُشْعِرٌ بِأنَّ المَأْمُورَ بِهِ مُعْتَدًى عَلَيْهِ، فَفي الإخْبارِ بِأنَّ اللَّهَ خَيْرُ الحاكِمِينَ إيماءٌ بِأنَّ اللَّهَ ناصِرٌ رَسُولَهُ ﷺ والمُؤْمِنِينَ عَلى الَّذِينَ كَذَّبُوا وعانَدُوا. وهَذا كَلامٌ جامِعٌ فِيهِ بَراعَةُ المَقْطَعِ.

* * *

صفحة ٣١١

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ هُودٍ

سُمِّيَتْ في جَمِيعِ المَصاحِفِ وكُتُبِ التَّفْسِيرِ والسُّنَّةِ سُورَةَ هُودٍ، ولا يُعْرَفُ لَها اسْمٌ غَيْرُ ذَلِكَ، وكَذَلِكَ ورَدَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ في حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ أبا بَكْرٍ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شِبْتَ، قالَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ، والواقِعَةُ، والمُرْسَلاتُ، وعَمَّ يَتَساءَلُونَ، وإذا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» . رَواهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ في كِتابِ التَّفْسِيرِ مِن سُورَةِ الواقِعَةِ. ورُوِيَ مِن طُرُقٍ أُخْرى بِألْفاظٍ مُتَقارِبَةٍ يَزِيدُ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ.

وسُمِّيَتُ باسِمِ هُودٍ لِتَكَرُّرِ اسْمِهِ فِيها خَمْسَ مَرّاتٍ، ولِأنَّ ما حُكِيَ عَنْهُ فِيها أطْوَلُ مِمّا حُكِيَ عَنْهُ في غَيْرِها، ولِأنَّ عادًا وُصِفُوا فِيها بِأنَّهم قَوْمُ هُودٍ في قَوْلِهِ: ﴿ألا بُعْدًا لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾ [هود: ٦٠]، وقَدْ تَقَدَّمَ في تَسْمِيَةِ سُورَةِ يُونُسَ وجْهٌ آخَرُ لِلتَّسْمِيَةِ يَنْطَبِقُ عَلى هَذِهِ وهو تَمْيِيزُها مِن بَيْنِ السُّوَرِ ذَواتِ الِافْتِتاحِ بِـ الر

وهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّها عِنْدَ الجُمْهُورِ. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ الزُّبَيْرِ، وقَتادَةَ إلّا آيَةً واحِدَةً وهي ﴿وأقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ﴾ [هود: ١١٤] إلى قَوْلِهِ: لِلذّاكِرِينَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هي مَكِّيَّةٌ إلّا ثَلاثَ آياتٍ نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ. وهي قَوْلُهُ - تَعالى:

صفحة ٣١٢

﴿فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إلَيْكَ﴾ [هود: ١٢]، وقَوْلُهُ: ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ﴾ [هود: ١٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [هود: ١٧] قِيلَ نَزَلَتْ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، وقَوْلُهُ: ﴿وأقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ﴾ [هود: ١١٤] الآيَةَ. قِيلَ نَزَلَتْ في قِصَّةِ أبِي اليَسَرِ كَما سَيَأْتِي، والأصَحُّ أنَّها كُلَّها مَكِّيَّةٌ وأنَّ ما رُوِيَ مِن أسْبابِ النُّزُولِ في بَعْضِ آيِها تَوَهُّمٌ لِاشْتِباهِ الِاسْتِدْلالِ بِها في قِصَّةٍ بِأنَّها نَزَلَتْ حِينَئِذٍ كَما يَأْتِي، عَلى أنَّ الآيَةَ الأُولى مِن هَذِهِ الثَّلاثِ واضِحٌ أنَّها مَكِّيَّةٌ.

نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بَعْدَ سُورَةِ يُونُسَ وقَبْلَ سُورَةِ يُوسُفَ. وقَدْ عُدَّتِ الثّانِيَةَ والخَمْسِينَ في تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ. ونَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ في أثْناءِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ أنَّها نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ يُونُسَ لِأنَّ التَّحَدِّيَ فِيها وقَعَ بِعَشْرِ سُوَرٍ وفي سُورَةِ يُونُسَ وقَعَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ، وسَيَأْتِي بَيانُ هَذا.

وقَدْ عُدَّتْ آياتُها مِائَةً وإحْدى وعِشْرِينَ في العَدَدِ المَدَنِيِّ الأخِيرِ. وكانَتْ آياتُها مَعْدُودَةً في المَدَنِيِّ الأوَّلِ مِائَةً واثْنَتَيْنِ وعِشْرِينَ، وهي كَذَلِكَ في عَدَدِ أهْلِ الشّامِ وفي عَدَدِ أهْلِ البَصْرَةِ وأهْلِ الكُوفَةِ مِائَةٌ وثَلاثٌ وعِشْرُونَ.

* * *

وأغْراضُها: ابْتَدَأتْ بِالإيماءِ إلى التَّحَدِّي لِمُعارَضَةِ القُرْآنِ بِما تُومِئُ إلَيْهِ الحُرُوفُ المُقَطَّعَةِ في أوَّلِ السُّورَةِ.

وبِاتِّلائِها بِالتَّنْوِيهِ بِالقُرْآنِ.

وبِالنَّهْيِ عَنْ عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعالى.

وبِأنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - نَذِيرٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِعَذابِ يَوْمٍ عَظِيمٍ وبَشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَتاعٍ حَسَنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى.

وإثْباتِ الحَشْرِ.

والإعْلامِ بِأنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلى خَفايا النّاسِ.

صفحة ٣١٣

وأنَّ اللَّهَ مُدَبِّرُ أُمُورِ كُلِّ حَيٍّ عَلى الأرْضِ.

وخَلْقِ العَوالِمِ بَعْدَ أنْ لَمْ تَكُنْ.

وأنَّ مَرْجِعَ النّاسِ إلَيْهِ، وأنَّهُ ما خَلَقَهم إلّا لِلْجَزاءِ.

وتَثْبِيتِ النَّبِيءِ ﷺ وتَسْلِيَتِهِ عَمّا يَقُولُهُ المُشْرِكُونَ وما يَقْتَرِحُونَهُ مِن آياتٍ عَلى وِفْقِ هَواهم ﴿أنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ﴾ [هود: ١٢]

وأنَّ حَسْبَهم آيَةُ القُرْآنِ الَّذِي تَحَدّاهم بِمُعارَضَتِهِ فَعَجَزُوا عَنْ مُعارَضَتِهِ فَتَبَيَّنَ خُذْلانُهم فَهم أحِقّاءُ بِالخَسارَةِ في الآخِرَةِ.

وضَرْبِ مَثَلٍ لِفَرِيقِي المُؤْمِنِينَ والمُشْرِكِينَ.

وذِكْرِ نُظَرائِهِمْ مِنَ الأُمَمِ البائِدَةِ مِن قَوْمِ نُوحٍ وتَفْصِيلِ ما حَلَّ بِهِمْ وعادٍ وثَمُودَ، وإبْراهِيمَ، وقَوْمِ لُوطٍ، ومَدْينَ، ورِسالَةِ مُوسى، تَعْرِيضًا بِما في جَمِيعِ ذَلِكَ مِنَ العِبَرِ وما يَنْبَغِي مِنهُ الحَذَرُ فَإنَّ أُولَئِكَ لَمْ تَنْفَعْهم آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَها.

وأنَّ في تِلْكَ الأنْباءِ عِظَةٌ لِلْمُتَّبِعِينَ بِسِيَرِهِمْ.

وأنَّ مِلاكَ ضَلالِ الضّالِّينَ عَدَمُ خَوْفِهِمْ عَذابَ اللَّهِ في الآخِرَةِ فَلا شَكَّ في أنَّ مُشْرِكِي العَرَبِ صائِرُونَ إلى ما صارَ إلَيْهِ أُولَئِكَ.

وانْفَرَدَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِتَفْصِيلِ حادِثِ الطُّوفانِ وغَيْضِهِ.

ثُمَّ عَرَّضَ بِاسْتِئْناسِ النَّبِيءِ ﷺ وتَسْلِيَتِهِ بِاخْتِلافِ قَوْمِ مُوسى في الكِتابِ الَّذِي أُوتِيَهُ فَما عَلى الرَّسُولِ وأتْباعِهِ إلّا أنْ يَسْتَقِيمَ فِيما أمَرَهُ اللَّهُ وأنْ لا يَرْكَنُوا إلى المُشْرِكِينَ، وأنَّ عَلَيْهِمْ بِالصَّلاةِ والصَّبْرِ والمُضِيِّ في الدَّعْوَةِ إلى الصَّلاحِ فَإنَّهُ لا هَلاكَ مَعَ الصَّلاحِ.

وقَدْ تَخَلَّلَ ذَلِكَ عِظاتٌ وعِبَرٌ والأمْرُ بِإقامَةِ الصَّلاةِ.