صفحة ١٢

﴿ولَئِنْ أذَقْنا الإنْسانَ مِنّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ولَئِنْ أخَّرْنا عَنْهُمُ العَذابَ إلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ. فَإنَّهُ لَمّا ذَكَرَ أنَّ ما هم فِيهِ مَتاعٌ إلى أجَلٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ اللَّهِ. وأنَّهم بَطِرُوا نِعْمَةَ التَّمْتِيعِ فَسَخِرُوا بِتَأْخِيرِ العَذابِ، بَيَّنَتْ هَذِهِ الآيَةُ أنَّ أهْلَ الضَّلالَةِ راسِخُونَ في ذَلِكَ لِأنَّهم لا يُفَكِّرُونَ في غَيْرِ اللَّذّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَتَجْرِي انْفِعالاتُهم عَلى حَسْبِ ذَلِكَ دُونَ رَجاءٍ لِتَغَيُّرِ الحالِ، ولا يَتَفَكَّرُونَ في أسْبابِ النَّعِيمِ والبُؤْسِ وتَصَرُّفاتِ خالِقِ النّاسَ ومُقَدِّرِ أحْوالِهِمْ، ولا يَتَّعِظُونَ بِتَقَلُّباتِ أحْوالِ الأُمَمِ، فَشَأْنُ أهْلِ الضَّلالَةِ أنَّهم إنْ حَلَّتْ بِهِمُ الضَّرّاءُ بَعْدَ النِّعْمَةِ مَلَكَهُمُ اليَأْسُ مِنَ الَخَيْرِ ونَسُوا النِّعْمَةَ فَجَحَدُوها وكَفَرُوا مُنْعِمَها، فَإنَّ تَأْخِيرَ العَذابِ رَحْمَةٌ وإتْيانُ العَذابِ نَزْعٌ لِتِلْكَ الرَّحْمَةِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ في قُوَّةِ التَّذْيِيلِ. فَتَعْرِيفُ الإنْسانِ تَعْرِيفُ الجِنْسِ مُرادٌ بِهِ الِاسْتِغْراقُ، وبِذَلِكَ اكْتَسَبَتِ الجُمْلَةُ قُوَّةَ التَّذْيِيلِ. فَمِعْيارُ العُمُومِ الِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿إلّا الَّذِينَ صَبَرُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [هود: ١١] كَما يَأْتِي، فَيَكُونُ الِاسْتِغْراقُ عُرْفِيًّا جارِيًا عَلى اصْطِلاحِ القُرْآنِ مِن إطْلاقِ لَفْظِ الإنْسانِ أوِ النّاسِ، ولِأنَّ وصْفَيْ ”يَئُوسٌ كَفُورٌ“ يُناسِبانِ المُشْرِكِينَ فَيَتَخَصَّصُ العامُّ بِهِمْ.

وقِيلَ التَّعْرِيفُ في الإنْسانِ لِلْعَهْدِ مُرادٌ مِنهُ إنْسانٌ خاصٌّ، فَرَوى الواحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها نَزَلَتْ في الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ. وعَنْهُ أنَّها نَزَلَتْ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي أُمَيَّةَ المَخْزُومِيِّ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ كُلَّ إنْسانٍ إذا حَلَّ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ عَلى تَفاوُتٍ في النّاسِ في هَذا اليَأْسِ.

واللّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ.

والإذاقَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ في إيصالِ الإدْراكِ عَلى وجْهِ المَجازِ، واخْتِيرَتْ مادَّةُ الإذاقَةِ لِما تُشْعِرُ بِهِ مِن إدْراكِ أمْرٍ مَحْبُوبٍ لِأنَّ المَرْءَ لا يَذُوقُ إلّا ما يَشْتَهِيهِ.

صفحة ١٣

والرَّحْمَةُ أُرِيدَ بِها رَحْمَةُ الدُّنْيا. وأُطْلِقَتْ عَلى أثَرِها وهو النِّعْمَةُ كالصِّحَّةِ والأمْنِ والعافِيَةِ، والمُرادُ النِّعْمَةُ السّابِقَةُ قَبْلَ نُزُولِ الضُّرِّ.

والنَّزْعُ حَقِيقَتُهُ خَلْعُ الثَّوْبِ عَنِ الجَسَدِ. واسْتُعْمِلَ هُنا في سَلْبِ النِّعْمَةِ عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِعارَةِ، ولِذَلِكَ عُدِّيَ بِحَرْفِ مِن دُونَ عَنْ لِأنَّ المَعْنى عَلى السَّلْبِ والِافْتِكاكِ، فَذِكْرُ مِن تَجْرِيدٌ لِلْمَجازِ.

وجُمْلَةُ ﴿إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾ جَوابُ القَسَمِ، وجُرِّدَتْ مِنَ الِافْتِتاحِ بِاللّامِ اسْتِغْناءً عَنْها بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وبِلامِ الِابْتِداءِ في خَبَرِ إنَّ. واسْتُغْنِيَ بِجَوابِ القَسَمِ عَنْ جَوابِ الشَّرْطِ المُقارِنِ لَهُ كَما هو شَأْنُ الكَلامِ المُشْتَمِلِ عَلى شَرْطٍ وقَسَمٍ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿ولَئِنْ أخَّرْنا عَنْهُمُ العَذابَ﴾ [هود: ٨] إلى آخِرِهِ.

واليَئُوسُ والكَفُورُ مِثالا مُبالَغَةٍ في الآيِسِ وكافِرِ النِّعْمَةِ، أيْ جاحِدِها، والمُرادُ بِالكَفُورِ مُنْكِرُ نِعْمَةِ اللَّهِ لِأنَّهُ تَصْدُرُ مِنهُ أقْوالٌ وخَواطِرُ مِنَ السُّخْطِ عَلى ما انْتابَهُ كَأنَّهُ لَمْ يُنْعِمْ عَلَيْهِ قَطُّ.

وتَأْكِيدُ الجُمْلَةِ بِاللّامِ المُوطِئَةِ لِلْقِسْمِ وبِحَرْفِ التَّوْكِيدِ في جُمْلَةِ جَوابِ القَسَمِ لِقَصْدِ تَحْقِيقِ مَضْمُونِها وأنَّهُ حَقِيقَةٌ ثابِتَةٌ لا مُبالَغَةَ فِيها ولا تَغْلِيبَ.