﴿قالَ إنِّيَ أُشْهِدُ اللَّهَ واشْهَدُوا أنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾ ﴿مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ﴾ ﴿إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلى اللَّهِ رَبِّي ورَبِّكم ما مِن دابَّةٍ إلّا هو ءاخِذٌ بِناصِيَتِها إنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

لَمّا جاءُوا في كَلامِهِمْ بِرَفْضِ ما دَعاهم إلَيْهِ وبِجَحْدِ آياتِهِ وبِتَصْمِيمِهِمْ عَلى مُلازَمَةِ عِبادَةِ أصْنامِهِمْ وبِالتَّنْوِيهِ بِتَصَرُّفِ آلِهَتِهِمْ أجابَهم هُودٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِأنَّهُ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ أنَّهُ أبْلَغَهم وأنَّهم كابَرُوا وجَحَدُوا آياتِهِ.

وجُمْلَةُ ﴿أُشْهِدُ اللَّهَ﴾ إنْشاءٌ لِإشْهادِ اللَّهِ بِصِيغَةِ الإخْبارِ لِأنَّ كُلَّ إنْشاءٍ لا يَظْهَرُ أثَرُهُ في الخَلْقِ مِن شَأْنِهِ أنْ يَقَعَ بِصِيغَةِ الخَبَرِ لِما في الخَبَرِ مِن قَصْدِ إعْلامِ السّامِعِ بِما يُضْمِرُهُ المُتَكَلِّمُ، ولِذَلِكَ كانَ مَعْنى صِيَغِ العُقُودِ إنْشاءً بِلَفْظِ الخَبَرِ. ثُمَّ حَمَّلَهم شَهادَةً لَهُ بِأنَّهُ بَرِيءٌ مِن شُرَكائِهِمْ مُبادَرَةً بِإنْكارِ المُنْكَرِ وإنْ كانَ ذَلِكَ قَدْ أتَوْا بِهِ اسْتِطْرادًا، فَلِذَلِكَ كانَ تَعَرُّضُهُ لِإبْطالِهِ كالِاعْتِراضِ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿إنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ﴾ وجُمْلَةِ فَإنْ تَوَلَّوْا بِناءً عَلى أنَّ جُمْلَةَ فَإنْ تَوَلَّوْا إلى آخِرِها مِن كَلامِ هُودٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، وسَيَأْتِي. ومَعْنى إشْهادِهِ فَيُرادُ مِن شُرَكائِهِمْ تَحْقِيقُ ذَلِكَ وأنَّهُ لا يَتَرَدَّدُ عَلى أمْرٍ جازِمٍ قَدْ أوْجَبَهُ المَشْهُودُ عَلَيْهِ عَلى نَفْسِهِ. وأتى في إشْهادِهِمْ بِصِيغَةِ الأمْرِ لِأنَّهُ أرادَ مِزاجَةَ إنْشاءِ الإشْهادِ دُونَ رائِحَةِ مَعْنى الإخْبارِ.

و(ما) في قَوْلِهِ: ﴿مِمّا تُشْرِكُونَ﴾ مَوْصُولَةٌ. والعائِدُ مَحْذُوفٌ. والتَّقْدِيرُ: مِمّا يُشْرِكُونَهُ.

وماصَدَقُ المَوْصُولِ الأصْنامُ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الجَمْعِ المُؤَكَّدِ في

صفحة ١٠٠

قَوْلِهِ: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا﴾ . ولَمّا كانَتِ البَراءَةُ مِنَ الشُّرَكاءِ تَقْتَضِي اعْتِقادَ عَجْزِها عَنْ إلْحاقِ إضْرارٍ بِهِ فَرَّعَ عَلى البَراءَةِ جُمْلَةَ ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا﴾ . وجَعَلَ الخِطابَ لِقَوْمِهِ لِئَلّا يَكُونَ خِطابُهُ لِما لا يَعْقِلُ ولا يَسْمَعُ، فَأمَرَ قَوْمَهُ بِأنْ يَكِيدُوهُ. وأدْخَلَ في ضَمِيرِ الكائِدِينَ أصْنامَهم مُجاراةً لِاعْتِقادِهِمْ واسْتِقْصاءً لِتَعْجِيزِهِمْ، أيْ أنْتُمْ وأصْنامُكم، كَما دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ عَلى البَراءَةِ مِن أصْنامِهِمْ.

والأمْرُ بـِ كِيدُونِي مُسْتَعْمَلٌ في الإباحَةِ كِنايَةً عَنِ التَّعْجِيزِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأصْنامِ وبِالنِّسْبَةِ لِقَوْمِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعالى: ﴿فَإنْ كانَ لَكم كَيْدٌ فَكِيدُونِ﴾ [المرسلات: ٣٩] . وهَذا إبْطالٌ لِقَوْلِهِمْ ﴿إنْ نَقُولُ إلّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ﴾

و(ثُمَّ) لِلتَّراخِي الرُّتْبِيِّ؛ تَحَدّاهم بِأنْ يَكِيدُوهُ ثُمَّ ارْتَقى في رُتْبَةِ التَّعْجِيزِ والِاحْتِقارِ فَنَهاهم عَنِ التَّأْخِيرِ بِكَيْدِهِمْ إيّاهُ، وذَلِكَ نِهايَةُ الِاسْتِخْفافِ بِأصْنامِهِمْ وبِهِمْ وكِنايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ لا يَصِلُونَ إلى ذَلِكَ.

وجُمْلَةُ ﴿إنِّي تَوَكَّلْتُ﴾ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ فَكِيدُونِي وهو التَّعْجِيزُ والِاحْتِقارُ. يَعْنِي: أنَّهُ واثِقٌ بِعَجْزِهِمْ عَنْ كَيْدِهِ لِأنَّهُ مُتَوَكِّلٌ عَلى اللَّهِ. فَهَذا مَعْنًى دِينِيٌّ قَدِيمٌ.

وأُجْرِيَ عَلى اسْمِ الجَلالَةِ صِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ اسْتِدْلالًا عَلى صِحَّةِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ في دَفْعِ ضُرِّهِمْ عَنْهُ؛ لِأنَّهُ مالِكُهم جَمِيعًا يَدْفَعُ ظُلْمَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.

وجُمْلَةُ ﴿ما مِن دابَّةٍ إلّا هو آخِذٌ بِناصِيَتِها﴾ في مَحَلِّ صِفَةٍ لِاسْمِ الجَلالَةِ، أوْ حالٍ مِنهُ، والغَرَضُ مِنها مِثْلُ الغَرَضِ مِن صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ.

والأخْذُ: الإمْساكُ.

والنّاصِيَةُ: ما انْسَدَلَ عَلى الجَبْهَةِ مِن شَعْرِ الرَّأْسِ. والأخْذُ بِالنّاصِيَةِ هُنا تَمْثِيلٌ لِلتَّمَكُّنِ، تَشْبِيهًا بِهَيْئَةِ إمْساكِ الإنْسانِ مِن ناصِيَتِهِ حَيْثُ يَكُونُ رَأْسُهُ بِيَدِ آخِذِهِ فَلا يَسْتَطِيعُ انْفِلاتًا. وإنَّما كانَ تَمْثِيلًا لِأنَّ دَوابَّ كَثِيرَةً لا نَواصِيَ لَها فَلا يَلْتَئِمُ الأخْذُ بِالنّاصِيَةِ مَعَ عُمُومِ ﴿ما مِن دابَّةٍ﴾، ولَكِنَّهُ لَمّا صارَ مَثَلًا

صفحة ١٠١

صارَ بِمَنزِلَةِ: ما مِن دابَّةٍ إلّا هو مُتَصَرِّفٌ فِيها. ومِن بَدِيعِ هَذا المَثَلِ أنَّهُ أشَدُّ اخْتِصاصًا بِالنَّوْعِ المَقْصُودِ مِن بَيْنِ عُمُومِ الدَّوابِّ، وهو نَوْعُ الإنْسانِ. والمَقْصُودُ مِن ذَلِكَ أنَّهُ المالِكُ القاهِرُ لِجَمِيعِ ما يَدِبُّ عَلى الأرْضِ، فَكَوْنُهُ مالِكًا لِلْكُلِّ يَقْتَضِي أنْ لا يَفُوتَهُ أحَدٌ مِنهم، وكَوْنُهُ قاهِرًا لَهم يَقْتَضِي أنْ لا يُعْجِزَهُ أحَدٌ مِنهم.

وجُمْلَةُ ﴿إنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ ﴿إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلى اللَّهِ﴾، أيْ تَوَكَّلْتُ عَلَيْهِ لِأنَّهُ أهْلٌ لِتَوَكُّلِي عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ مُتَّصِفٌ بِإجْراءِ أفْعالِهِ عَلى طَرِيقِ العَدْلِ والتَّأْيِيدِ لِرُسُلِهِ.

و(عَلى) لِلِاسْتِعْلاءِ المَجازِيِّ، مِثْلَ ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] مُسْتَعارَةٌ لِلتَّمَكُّنِ المَعْنَوِيِّ، وهو الِاتِّصافُ الرّاسِخُ الَّذِي لا يَتَغَيَّرُ.

والصِّراطُ المُسْتَقِيمُ مُسْتَعارٌ لِلْفِعْلِ الجارِي عَلى مُقْتَضى العَدْلِ والحِكْمَةِ لِأنَّ العَدْلَ يُشَبَّهُ بِالِاسْتِقامَةِ والسَّواءِ. قالَ - تَعالى: ﴿فاتَّبِعْنِي أهْدِكَ صِراطًا سَوِيًّا﴾ [مريم: ٤٣] . فَلا جَرَمَ لا يُسْلِمُ المُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ لِلظّالِمِينَ.