﴿ولَمّا جا أمْرُنا نَجَّيْنا هُودًا والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا ونَجَّيْناهم مِن عَذابٍ غَلِيظٍ﴾

اسْتِعْمالُ الماضِي في قَوْلِهِ: جاءَ أمْرُنا بِمَعْنى اقْتِرابِ المَجِيءِ لِأنَّ الإنْجاءَ كانَ قَبْلَ حُلُولِ العَذابِ.

والأمْرُ أُطْلِقَ عَلى أثَرِ الأمْرِ، وهو ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أمْرَ تَكْوِينٍ، أيْ لَمّا اقْتَرَبَ مَجِيءُ أثَرِ أمْرِنا، وهو العَذابُ، أيِ الرِّيحُ العَظِيمُ.

صفحة ١٠٤

ومُتَعَلِّقُ (نَجَّيْنا) الأوَّلُ مَحْذُوفٌ، أيْ مِنَ العَذابِ الدّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿ولَمّا جاءَ أمْرُنا﴾ . وكَيْفِيَّةُ إنْجاءِ هُودٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ومَن مَعَهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُها في تَفْسِيرِ سُورَةِ الأعْرافِ.

والباءُ في ﴿بِرَحْمَةٍ مِنّا﴾ لِلسَّبَبِيَّةِ، فَكانَتْ رَحْمَةُ اللَّهِ بِهِمْ سَبَبًا في نَجاتِهِمْ. والمُرادُ بِالرَّحْمَةِ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْحَمْهم لِشَمِلَهُمُ الِاسْتِئْصالُ فَكانَ نِقْمَةً لِلْكافِرِينَ وبَلْوًى لِلْمُؤْمِنِينَ.

وجُمْلَةُ ﴿ونَجَّيْناهم مِن عَذابٍ غَلِيظٍ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿ولَمّا جاءَ أمْرُنا﴾ . والتَّقْدِيرُ وأيْضًا نَجَّيْناهم مِن عَذابٍ شَدِيدٍ وهو الإنْجاءُ مِن عَذابِ الآخِرَةِ وهو العَذابُ الغَلِيظُ. فَفي هَذا مِنَّةٌ ثانِيَةٌ عَلى إنْجاءٍ ثانٍ، أيْ نَجَّيْناهم مِن عَذابِ الدُّنْيا بِرَحْمَةٍ مِنّا ونَجَّيْناهم مِن عَذابٍ غَلِيظٍ في الآخِرَةِ، ولِذَلِكَ عَطَفَ فِعْلَ (نَجَّيْناهم) عَلى (نَجَّيْنا)، وهَذانِ الإنْجاءانِ يُقابِلانِ جَمْعَ العَذابَيْنِ لِعادٍ في قَوْلِهِ: ﴿وأُتْبِعُوا في هَذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ويَوْمَ القِيامَةِ﴾ [هود: ٦٠] . وقَدْ ذُكِرَ هُنا مُتَعَلِّقُ الإنْجاءِ وحُذِفَ السَّبَبُ عَكْسُ ما في الجُمْلَةِ الأوْلى لِظُهُورِ أنَّ الإنْجاءَ مِن عَذابِ الآخِرَةِ كانَ بِسَبَبِ الإيمانِ وطاعَةِ اللَّهِ كَما دَلَّ عَلَيْهِ مُقابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وعَصَوْا رُسُلَهُ﴾ [هود: ٥٩]

والغَلِيظُ حَقِيقَتُهُ: الخَشِنُ ضِدُّ الرَّقِيقِ، وهو مُسْتَعارٌ لِلشَّدِيدِ. واسْتَعْمَلَ الماضِي في ونَجَّيْناهم في مَعْنى المُسْتَقْبَلِ لِتَحَقُّقِ الوَعْدِ بِوُقُوعِهِ.