﴿ولِما جاءَتْ رُسُلُنا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وضاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وقالَ هَذا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾

قَدْ عُلِمَ أنَّ المَلائِكَةَ ذاهِبُونَ إلى قَوْمِ لُوطٍ مِن قَوْلِهِ: ﴿إنّا أُرْسِلْنا إلى قَوْمِ لُوطٍ﴾ [هود: ٧٠] . فالتَّقْدِيرُ: فَفارَقُوا إبْراهِيمَ وذَهَبُوا إلى لُوطٍ - عَلَيْهِما السَّلامُ - فَلَمّا جاءُوا لُوطًا، فَحَذَفَ ما دَلَّ عَلَيْهِ المَقامُ إيجازًا قُرْآنِيًّا بَدِيعًا.

وقَدْ جاءُوا لُوطًا كَما جاءُوا إبْراهِيمَ عَلَيْهِما السَّلامُ في صُورَةِ البَشَرِ، فَظَنَّهم ناسًا وخَشِيَ أنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِمْ قَوْمُهُ بِعادَتِهِمُ الشَّنِيعَةِ، فَلِذَلِكَ سِيءَ بِهِمْ.

ومَعْنى ﴿وضاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ ضاقَ ذَرْعَهُ بِسَبَبِهِمْ، أيْ بِسَبَبِ مَجِيئِهِمْ فَحَوَّلَ الإسْنادَ إلى المُضافِ إلَيْهِ وجَعَلَ المُسْنَدَ إلَيْهِ تَمْيِيزًا لِأنَّ إسْنادَ الضِّيقِ إلى صاحِبِ الذَّرْعِ أنْسَبُ بِالمَعْنى المَجازِيِّ، وهو أشْبَهُ بِتَجْرِيدِ الِاسْتِعارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ.

والذَّرْعُ: مَدُّ الذِّراعِ فَإذا أُسْنِدَ إلى الآدَمِيِّ فَهو تَقْدِيرُ المَسافَةِ. وإذا أُسْنِدَ إلى البَعِيرِ فَهو مَدُّ ذِراعَيْهِ في السَّيْرِ عَلى قَدْرِ سَعَةِ خُطْوَتِهِ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ: ضاقَ ذَرْعًا

صفحة ١٢٥

تَمْثِيلًا بِحالِ الإنْسانِ الَّذِي يُرِيدُ مَدَّ ذِراعِهِ فَلا يَسْتَطِيعُ مَدَّها كَما يُرِيدُ فَيَكُونُ ذَرْعُهُ أضْيَقَ مِن مُعْتادِهِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا بِحالِ البَعِيرِ المُثْقَلِ بِالحِمْلِ أكْثَرَ مِن طاقَتِهِ فَلا يَسْتَطِيعُ مَدَّ ذِراعَيْهِ كَما اعْتادَهُ. وأيًّا ما كانَ فَهو اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ لِحالِ مَن لَمْ يَجِدْ حِيلَةً في أمْرٍ يُرِيدُ عَمَلَهُ بِحالِ الَّذِي لَمْ يَسْتَطِعْ مَدَّ ذِراعِهِ كَما يَشاءُ.

وقَوْلُهُ: ﴿هَذا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ قالَهُ في نَفْسِهِ كَما يُناجِي المَرْءُ نَفْسَهُ إذا اشْتَدَّ عَلَيْهِ أمْرٌ.

والعَصِيبُ: الشَّدِيدُ فِيما لا يُرْضِي. يُقالُ: يَوْمٌ عَصِيبٌ إذا حَدَثَ فِيهِ أمْرٌ عَظِيمٌ مِن أحْوالِ النّاسِ أوْ أحْوالِ الجَوِّ كَشِدَّةِ البَرْدِ وشِدَّةِ الحَرِّ. وهو بِزِنَةِ فَعِيلٍ بِمَعْنى فاعِلٍ ولا يُعْرَفُ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ وإنَّما يُقالُ: اعْصَوْصَبَ الشَّرُّ اشْتَدَّ. قالُوا: هو مُشْتَقٌّ مِن قَوْلِكَ: عَصَبْتَ الشَّيْءَ إذا شَدَدْتَهُ. وأصْلُ هَذِهِ المادَّةِ يُفِيدُ الشَّدَّ والضَّغْطَ، يُقالُ: عَصَبَ الشَّيْءَ إذا لَواهُ، ومِنهُ العِصابَةُ. ويُقالُ: عَصَبَتْهُمُ السُّنُونُ إذا أجاعَتْهم. ولَمْ أقِفْ عَلى فِعْلٍ مُجَرَّدٍ لِوَصْفِ اليَوْمِ بِعَصِيبٍ. وأرادَ: أنَّهُ سَيَكُونُ عَصِيبًا لِما يَعْلَمُ مِن عادَةِ قَوْمِهِ السَّيِّئَةِ وهو مُقْتَضٍ أنَّهم جاءُوهُ نَهارًا.

ومِن بَدِيعِ تَرْتِيبِ هَذِهِ الجُمَلِ أنَّها جاءَتْ عَلى تَرْتِيبِ حُصُولِها في الوُجُودِ، فَإنَّ أوَّلَ ما يَسْبِقُ إلى نَفْسِ الكارِهِ لِلْأمْرِ أنْ يُساءَ بِهِ ويَتَطَلَّبُ المُخَلِّصَ مِنهُ، فَإذا عَلِمَ أنَّهُ لا مُخَلِّصَ مِنهُ ضاقَ بِهِ ذَرْعًا، ثُمَّ يُصْدِرُ تَعْبِيرًا عَنِ المَعانِي وتَرْتِيبًا عَنْهُ كَلامًا يُرِيحُ بِهِ نَفْسَهُ.

وتَصْلُحُ هَذِهِ الآيَةُ لِأنْ تَكُونَ مِثالًا لِإنْشاءِ المُنْشِئِ إنْشاءَهُ عَلى حَسَبِ تَرْتِيبِ الحُصُولِ في نَفْسِ الأمْرِ، هَذا أصْلُ الإنْشاءِ ما لَمْ تَكُنْ في الكَلامِ دَواعِي التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ ودَواعِي الحَذْفِ والزِّيادَةِ.