﴿قالُوا يا شُعَيْبُ أصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ أنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أوْ أنْ نَفْعَلَ في أمْوالِنا ما نَشاءُ إنَّكَ لَأنْتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾

كانَتِ الصَّلاةُ مِن عِمادِ الأدْيانِ كُلِّها. وكانَ المُكَذِّبُونَ المُلْحِدُونَ قَدْ تَمالَئُوا في كُلِّ أُمَّةٍ عَلى إنْكارِها والِاسْتِهْزاءِ بِفاعِلِها ﴿أتَواصَوْا بِهِ بَلْ هم قَوْمٌ طاغُونَ﴾ [الذاريات: ٥٣]، فَلَمّا كانَتِ الصَّلاةُ أخَصَّ أعْمالِهِ المُخالِفَةِ لِمُعْتادِهِمْ جَعَلُوها المُشِيرَةَ عَلَيْهِ بِما بَلَّغَهُ إلَيْهِمْ مِن أُمُورٍ مُخالِفَةٍ لِمُعْتادِهِمْ - بِناءً عَلى التَّناسُبِ بَيْنَ السَّبَبِ والمُسَبِّبِ في مُخالَفَةِ المُعْتادِ - قَصْدًا لِلتَّهَكُّمِ بِهِ والسُّخْرِيَةِ عَلَيْهِ تَكْذِيبًا لَهُ فِيما جاءَهم بِهِ، فَإسْنادُ الأمْرِ إلى الصَّلَواتِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ إذْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ العُقَلاءِ أنَّ الأفْعالَ لا تَأْمُرُ. والمَعْنى أنَّ صَلاتَهُ تَأْمُرُهُ بِأنَّهم يَتْرُكُونَ، أيْ تَأْمُرُهُ بِأنْ يَحْمِلَهم عَلى تَرْكِ ما يَعْبُدُ آباؤُهم. إذْ مَعْنى كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِعَمَلِ غَيْرِهِ أنَّهُ مَأْمُورٌ بِالسَّعْيِ في ذَلِكَ بِأنْ يَأْمُرَهم بِأشْياءَ.

صفحة ١٤٢

و(ما) في قَوْلِهِ: ما يَعْبُدُ آباؤُنا مَوْصُولَةٌ صادِقَةٌ عَلى المَعْبُوداتِ. ومَعْنى تَرَكِها تَرْكُ عِبادَتِها كَما يُؤْذِنُ بِهِ فِعْلُ يَعْبُدُ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ (ما) مَصْدَرِيَّةٌ بِتَقْدِيرِ: أنْ نَتْرُكَ مِثْلَ عِبادَةِ آبائِنا.

وقَرَأ الجُمْهُورُ (أصَلَواتُكَ) بِصِيغَةِ جَمْعِ صَلاةٍ. وقَرَأهُ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ، وخَلَفٌ (أصَلاتُكَ) بِصِيغَةِ المُفْرَدِ.

و(أوْ) مِن قَوْلِهِ: ﴿أوْ أنْ نَفْعَلَ في أمْوالِنا ما نَشاءُ﴾ لِتَقْسِيمِ ما يَأْمُرُهم بِهِ لِأنَّ مِنهم مَن لا يَتَّجِرُ فَلا يُطَفِّفُ في الكَيْلِ والمِيزانِ فَهو قِسْمٌ آخَرُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ بَقِيَّةِ الأُمَّةِ بِأنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَرْكِ التَّطْفِيفِ. فَقَوْلُهُ: ﴿أنْ نَفْعَلَ﴾ عَطْفٌ عَلى ما يَعْبُدُ آباؤُنا، أيْ أنْ نَتْرُكَ فِعْلَ ما نَشاءُ في أمْوالِنا فَنَكُونَ طَوْعَ أمْرِكَ نَفْعَلُ ما تَأْمُرُنا بِفِعْلِهِ ونَتْرُكُ ما تَأْمُرُنا بِتَرْكِهِ.

وبِهَذا تَعْلَمُ أنْ لا داعِيَ إلى جَعْلِ (أوْ) بِمَعْنى واوِ الجَمْعِ، كَما دَرَجَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ مِثْلَ البَيْضاوِيُّ والكَواشِيُّ وجَعَلُوهُ عَطْفًا عَلى (نَتْرُكُ) فَتَوَجَّسُوا عَدَمَ اسْتِقامَةِ المَعْنى كَما قالَ الطَّبَرِيُّ. وتَأوَّلَهُ بِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما عَنْ أهْلِ البَصْرَةِ والآخَرُ عَنْ أهْلِ الكُوفَةِ، أحَدُهُما مَبْنِيٌّ عَلى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ والآخَرُ عَلى تَأْوِيلِ فِعْلِ (تَأْمُرُكَ) وكِلاهُما تَكَلُّفٌ. وأمّا الأكْثَرُ فَصارُوا إلى صَرْفِ (أوْ) عَنْ مُتَعارَفِ مَعْناها وقَدْ كانُوا في سَعَةٍ عَنْ ذَلِكَ. وسَكَتَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِثْلُ صاحِبِ الكَشّافِ. وأوْمَأ البَغَوِيُّ والنَّسَفِيُّ إلى ما صَرَّحْنا بِهِ.

وجُمْلَةُ ﴿إنَّكَ لَأنْتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ اسْتِئْنافُ تَهَكُّمٍ آخَرَ. وقَدْ جاءَتِ الجُمْلَةُ مُؤَكَّدَةٌ بِحَرْفِ إنَّ ولامِ القَسَمِ وبِصِيغَةِ القَصْرِ في جُمْلَةِ ﴿لَأنْتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ فاشْتَمَلَتْ عَلى أرْبَعَةِ مُؤَكِّداتٍ.

والحَلِيمُ، زِيادَةٌ في التَّهَكُّمِ: ذُو الحِلْمِ أيِ العَقْلِ، والرَّشِيدُ: الحَسَنُ التَّدْبِيرِ في المالِ.