﴿الر﴾ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ في فاتِحَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ وعَلى نَظِيرِ هَذِهِ الحُرُوفِ في سُورَةِ يُونُسَ.

* * *

﴿كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ بِإذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِراطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾ الكَلامُ عَلى تَرْكِيبِ ﴿الر كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ﴾ كالكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى ﴿المص﴾ [الأعراف: ١] ﴿كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ﴾ عَدا هَذِهِ الآيَةِ ذُكِرَ فِيها فاعِلُ الإنْزالِ وهو مَعْلُومٌ مِن مادَّةِ الإنْزالِ المُشْعِرَةِ بِأنَّهُ وارِدٌ مِن قِبَلِ العالَمِ العُلْوِيِّ، فَلِلْعِلْمِ بِمَنزِلَةِ حَذْفِ الفاعِلِ في آيَةِ سُورَةِ الأعْرافِ، وهو مُقْتَضى الظّاهِرِ والإيجازِ، ولَكِنَّهُ ذَكَرَها هُنا لِأنَّ المَقامَ مَقامُ الِامْتِنانِ عَلى النّاسِ المُسْتَفادِ مِنَ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ ﴿لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ﴾، ومِن ذِكْرِ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ بِقَوْلِهِ ﴿بِإذْنِ رَبِّهِمْ﴾، بِخِلافِ آيَةِ سُورَةِ الأعْرافِ فَإنَّها في مَقامِ الطَّمْأنَةِ والتَّصْبِيرِ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - المُنَزَّلِ إلَيْهِ الكِتابُ، فَكانَ التَّعَرُّضُ لِذِكْرِ المُنْزِلِ إلَيْهِ والِاقْتِصارِ عَلَيْهِ أهَمَّ في ذَلِكَ المَقامِ مَعَ ما فِيهِ مِن قَضاءِ حَقِّ الإيجازِ.

صفحة ١٨٠

أمّا التَّعَرُّضُ لِلْمُنَزَّلِ إلَيْهِ هُنا فَلِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ، ولِيَجْعَلَ لَهُ حَظٌّ في هَذِهِ المِنَّةِ وهو حَظُّ الوَساطَةِ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ﴾، ولِما فِيهِ مِن غَمِّ المُعانِدِينَ والمُبْغِضِينَ لِلنَّبِيِّ ﷺ .

ولِأجْلِ هَذا المَقْصِدِ وقَعَ إظْهارُ صِفاتِ فاعِلِ الإنْزالِ ثَلاثَ مَرّاتٍ في قَوْلِهِ ﴿بِإذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِراطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾ بَعْدَ أنْ كانَ المَقامُ لِلْإضْمارِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ أنْزَلْناهُ.

وإسْنادُ الإخْراجِ إلى النَّبِيءِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - لِأنَّهُ يُبَلِّغُ هَذا الكِتابَ المُشْتَمِلَ عَلى تَبْيِينِ طُرُقِ الهِدايَةِ إلى الإيمانِ وإظْهارِ فَسادِ الشِّرْكِ والكُفْرِ، وهو مَعَ التَّبْلِيغِ يُبَيِّنُ لِلنّاسِ ويُقَرِّبُ إلَيْهِمْ مَعانِيَ الكِتابِ بِتَفْسِيرِهِ وتَبْيِينِهِ، ثُمَّ بِما يَبْنِيهِ عَلَيْهِ مِنَ المَواعِظِ والنُّذُرِ والبِشارَةِ. وإذْ قَدْ أُسْنِدَ الإخْراجُ إلَيْهِ في سِياقِ تَعْلِيلِ إنْزالِ الكِتابِ إلَيْهِ عُلِمَ أنَّ إخْراجَهُ إيّاهم مِنَ الظُّلُماتِ بِسَبَبِ هَذا الكِتابِ المُنَزَّلِ، أيْ: بِما يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِن مَعانِي الهِدايَةِ.

وتَعْلِيلُ الإنْزالِ بِالإخْراجِ مِنَ الظُّلُماتِ دَلَّ عَلى أنَّ الهِدايَةَ هي مُرادُ اللَّهِ تَعالى مِنَ النّاسِ، وأنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهم في ضَلالِهِمْ، فَمَنِ اهْتَدى فَبِإرْشادِ اللَّهِ ومَن ضَلَّ فَبِإيثارِ الضّالِّ هَوى عَلى دَلائِلِ الإرْشادِ، وأمْرُ اللَّهِ لا يَكُونُ إلّا لِحِكَمٍ ومَصالِحَ بَعْضُها أكْبَرُ مِن بَعْضٍ.

والإخْراجُ: مُسْتَعارٌ لِلنَّقْلِ مِن حالٍ إلى حالٍ. شَبَّهَ الِانْتِقالَ بِالخُرُوجِ فَشَبَّهَ النَّقْلَ بِالإخْراجِ.

والظُّلُماتُ والنُّورُ اسْتِعارَةٌ لِلْكُفْرِ والإيمانِ، لِأنَّ الكُفْرَ يَجْعَلُ صاحِبَهُ في حَيْرَةٍ فَهو كالظُّلْمَةِ في ذَلِكَ، والإيمانُ يُرْشِدُ إلى الحَقِّ فَهو كالنُّورِ في إيضاحِ السَّبِيلِ. وقَدْ يَسْتَخْلِصُ السّامِعُ مِن ذَلِكَ تَمْثِيلَ حالِ المُنْغَمِسِ في الكُفْرِ بِالمُتَحَيِّرِ في ظُلْمَةٍ، وحالِ انْتِقالِهِ إلى الإيمانِ بِحالِ الخارِجِ مِن ظُلْمَةٍ إلى مَكانٍ نَيِّرٍ.

صفحة ١٨١

وجَمْعُ الظُّلُماتِ وإفْرادُ النُّورِ تَقَدَّمَ في أوَّلِ سُورَةِ الأنْعامِ.

والباءُ في ”بِإذْنِ رَبِّهِمْ لِلسَّبَبِيَّةِ“، والإذْنُ: الأمْرُ بِفِعْلٍ يَتَوَقَّفُ عَلى رِضى الآمِرِ بِهِ، وهو أمْرُ اللَّهِ إيّاهُ بِإرْسالِهِ إلَيْهِمْ لِأنَّهُ هو الإذْنُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ النّاسِ، كَقَوْلِهِ ﴿وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلّا لِيُطاعَ بِإذْنِ اللَّهِ﴾ [النساء: ٦٤] . ولَمّا كانَ الإرْسالُ لِمَصْلَحَتِهِمْ أُضِيفَ الإذْنُ إلى وصْفِ الرَّبِّ المُضافِ إلى ضَمِيرِ النّاسِ، أيْ: بِإذْنِ الَّذِي يُدَبِّرُ مَصالِحَهم.

وقَوْلُهُ ﴿إلى صِراطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾ بَدَلٌ مِنَ النُّورِ بِإعادَةِ الجارِّ لِلْمُبْدَلِ مِنهُ لِزِيادَةِ بَيانِ المُبْدَلِ مِنهُ اهْتِمامًا بِهِ، وتَأْكِيدًا لِلْعامِلِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿قالَ المَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَن آمَنَ مِنهُمْ﴾ [الأعراف: ٧٥] في سُورَةِ الأعْرافِ. ومُناسَبَةُ الصِّراطِ المُسْتَعارِ لِلدِّينِ الحَقِّ، لِاسْتِعارَةِ الإخْراجِ والظُّلُماتِ والنُّورِ ولِما يَتَضَمَّنُهُ مِنَ التَّمْثِيلِ، ظاهِرَةٌ.

واخْتِيارُ وصْفِ ﴿العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾ مِن بَيْنِ الصِّفاتِ العُلا لِمَزِيدِ مُناسَبَتِها لِلْمَقامِ، لِأنَّ العَزِيزَ الَّذِي لا يُغْلَبُ. وإنْزالُ الكِتابِ بِرِهانٌ عَلى أحَقِّيَّةِ ما أرادَهُ اللَّهُ مِنَ النّاسِ فَهو بِهِ غالِبٌ لِلْمُخالِفِينَ مُقِيمٌ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.

والحَمِيدُ: بِمَعْنى المَحْمُودِ، لِأنَّ في إنْزالِ هَذا الكِتابِ نِعْمَةً عَظِيمَةً تُرْشِدُ إلى حَمْدِهِ عَلَيْهِ، وبِذَلِكَ اسْتَوْعَبَ الوَصْفانِ الإشارَةَ إلى الفَرِيقَيْنِ مِن كُلِّ مُنْساقٍ إلى الِاهْتِداءِ مِن أوَّلِ وهْلَةٍ ومِن مُجادِلٍ صائِرٍ إلى الِاهْتِداءِ بَعْدَ قِيامِ الحُجَّةِ ونَفاذِ الحِيلَةِ.