﴿وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهم فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ وهْوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ إذا كانَتْ صِيغَةُ القَصْرِ مُسْتَعْمَلَةً في ظاهِرِها ومُسَلَّطَةً عَلى مُتَعَلِّقِي الفِعْلِ المَقْصُورِ كانَ قَصْرًا إضافِيًّا لِقَلْبِ اعْتِقادِ المُخاطَبِينَ، فَيَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ رَدًّا عَلى فَرِيقٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قالُوا: هَلّا أُنْزِلَ القُرْآنُ بِلُغَةِ العَجَمِ. وقَدْ ذُكِرَ في الكَشّافِ في سُورَةِ فُصِّلَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ أأعْجَمِيٌّ وعَرَبِيٌّ﴾ [فصلت: ٤٤] فَقالَ: كانُوا لِتَعَنُّتِهِمْ يَقُولُونَ: هَلّا نَزَلَ القُرْآنُ بِلُغَةِ العَجَمِ، وهو مَرْوِيٌّ في تَفْسِيرِ الطَّبَرَيِّ هُنالِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنَّ العَرَبَ قالُوا ذَلِكَ.

ثُمَّ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِلُغَةِ العَجَمِ لُغَةَ غَيْرِ العَرَبِ مِثْلَ العِبْرانِيَّةِ أوْ السُّرْيانِيَّةِ مِنَ اللُّغاتِ الَّتِي أُنْزِلَتْ بِها التَّوْراةُ والإنْجِيلُ، فَكانَ مِن جُمْلَةِ ما مَوَّهَتْ لَهم أوْهامُهم أنْ حَسِبُوا أنَّ لِلْكُتُبِ الإلَهِيَّةِ لُغَةً خاصَّةً تُنَزَّلُ بِها ثُمَّ تُفَسَّرُ لِلَّذِينِ لا يَعْرِفُونَ تِلْكَ اللُّغَةَ. وهَذا اعْتِقادٌ فاشٍ بَيْنَ أهْلِ العُقُولِ الضَّعِيفَةِ، فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ يُعالِجُونَ سِرَّ الحَرْفِ والطَّلْسَماتِ يُمَوِّهُونَ بِأنَّها لا تُكْتَسَبُ إلّا بِاللُّغَةِ السُّرْيانِيَّةِ ويَزْعُمُونَ أنَّها لُغَةُ المَلائِكَةِ ولُغَةُ الأرْواحِ. وقَدْ زَعَمَ السِّراجُ البَلْقِينِيُّ: أنَّ سُؤالَ القَبْرِ يَكُونُ بِاللُّغَةِ السُّرْيانِيَّةِ وتَلَقّاهُ عَنْهُ جَلالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ واسْتَغْرَبَهُ فَقالَ:

وِمِن عَجِيبِ ما تَرى العَيْنانِ أنَّ سُؤالَ القَبْرِ بِالسُّرْيانِي أفْتى بِهَذا شَيْخُنا البَلْقِينِي ولَمْ أرَهُ لِغَيْرِهِ بِعَيْنِي

صفحة ١٨٦

وقَدْ كانَ المُتَنَصِّرُونَ مِنَ العَرَبِ والمُتَهَوِّدُونَ مِنهم مِثْلَ عَرَبِ اليَمَنِ تُتَرْجَمُ لَهم بَعْضُ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ بِالعَرَبِيَّةِ كَما ورَدَ في حَدِيثِ ورَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ في كِتابِ بَدْءِ الوَحْيِ مِن صَحِيحِ البُخارِيِّ، فاسْتَقَرَّ في نُفُوسِ المُشْرِكِينَ مِن جُمْلَةِ مَطاعِنِهِمْ أنَّ القُرْآنَ لَوْ كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ لَكانَ بِاللُّغَةِ الَّتِي جاءَتْ بِها الكُتُبُ السّالِفَةُ، فَصارَتْ عَرَبِيَّتُهُ عِنْدَهم مِن وُجُوهِ الطَّعْنِ في أنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن اللَّهِ، فالقَصْرُ هُنا لِرَدِّ كَلامِهِمْ، أيْ: ما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ بِلِسانٍ إلّا لِسانِ قَوْمِهِ المُرْسَلِ إلَيْهِمْ لا بِلِسانِ قَوْمٍ آخَرِينَ.

فَمَوْقِعُ هَذِهِ الآيَةِ عَقِبَ آيَةِ ﴿كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ﴾ [إبراهيم: ١] بَيِّنُ المُناسَبَةِ.

وتَقْدِيرُ النَّظْمِ: كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، وأنْزَلْناهُ بِلُغَةِ قَوْمِكَ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهم فَيُخْرِجَهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ.

وإذا كانَتْ صِيغَةُ القَصْرِ جارِيَةً عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ ولَمْ يَكُنْ رَدًّا لِمَقالَةِ بَعْضِ المُشْرِكِينَ يَكُنْ تَنْزِيلًا لِلْمُشْرِكِينَ مَنزِلَةَ مَن لَيْسُوا بِعَرَبٍ لِعَدَمِ تَأثُّرِهِمْ بِآياتِ القُرْآنِ، ولِقَوْلِهِمْ ﴿قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ﴾ [فصلت: ٥] وكانَ مَناطُ القَصْرِ هو ما بَعْدَ لامِ العِلَّةِ. والمَعْنى: ما أرْسَلْناكَ إلّا لِتُبَيِّينَ لَهم وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلّا لِيُبَيِّنَ لِقَوْمِهِ، وكانَ قَوْلُهُ ﴿إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ﴾ إدْماجًا في الِاسْتِثْناءِ المُتَسَلِّطِ عَلَيْهِ القَصْرُ، أوْ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ لِيُبَيِّنَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ. والتَّقْدِيرُ: ما أرْسَلْناكَ إلّا لِتُبَيِّنَ لَهم بِلِسانِهِمْ، وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلّا لِيُبَيِّنَ لِقَوْمِهِ بِلِسانِهِمْ، فَما لِقَوْمِكَ لَمْ يَهْتَدُوا بِهَذا القُرْآنِ وهو بِلِسانِهِمْ، وبِذَلِكَ يَتَّضِحُ مُوقِعُ التَّفْرِيعِ في قَوْلِهِ ﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ .

واللِّسانُ: اللُّغَةُ وما بِهِ التَّخاطُبُ. أُطْلِقَ عَلَيْها اللِّسانُ مِن إطْلاقِ اسْمِ المَحَلِّ عَلى الحالِّ بِهِ، مِثْلَ: سالَ الوادِي، والباءُ لِلْمُلابَسَةِ، فَلُغَةُ قَوْمِهِ مُلابِسَةٌ لِكَلامِهِ والكِتابِ المُنَزَّلِ إلَيْهِ لِإرْشادِهِمْ.

صفحة ١٨٧

والقَوْمُ: الأُمَّةُ والجَماعَةُ، فَقَوْمُ كُلِّ أحَدٍ رَهْطُهُ الَّذِينَ جَماعَتُهم واحِدَةٌ ويَتَكَلَّمُونَ بِلُغَةٍ واحِدَةٍ، وقَوْمُ كُلِّ رَسُولٍ أُمَّتُهُ المَبْعُوثُ إلَيْهِمْ، إذْ كانَ الرُّسُلُ يُبْعَثُونَ إلى أقْوامِهِمْ، وقَوْمُ مُحَمَّدٍ ﷺ هُمُ العَرَبُ، وأمّا أُمَّتُهُ فَهُمُ الأقْوامُ المَبْعُوثُ إلَيْهِمْ، وهُمُ النّاسُ كافَّةً.

وإنَّما كانَ المُخاطَبُ أوَّلًا هُمُ العَرَبُ الَّذِينَ هو بَيْنَ ظَهْرانِيهِمْ ونَزَلَ الكِتابُ بِلُغَتِهِمْ لِتَعَذُّرِ نُزُولِهِ بِلُغاتِ الأُمَمِ كُلِّها، فاخْتارَ اللَّهُ أنْ يَكُونَ رَسُولُهُ ﷺ مِن أُمَّةٍ هي أفْصَحُ الأُمَمِ لِسانًا، وأسْرَعُهم أفْهامًا، وألْمَعُهم ذَكاءً، وأحْسَنُهم اسْتِعْدادًا لِقَبُولِ الهُدى والإرْشادِ، ولَمْ يُؤْمِن بِرَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ في حَياتِهِ عَدَدٌ مِنَ النّاسِ مِثْلَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ في حَياتِهِ فَقَدْ عَمَّ الإسْلامُ بِلادَ العَرَبِ وقَدْ حَجَّ مَعَ النَّبِيءِ ﷺ في حِجَّةِ الوَداعِ نَحْوَ خَمْسِينَ ألْفًا أوْ أكْثَرَ. وقِيلَ: مِائَةُ ألْفٍ وهْمُ الرِّجالُ المُسْتَطِيعُونَ.

واخْتارَ أنْ يَكُونَ الكِتابُ المُنَزَّلُ إلَيْهِمْ بِلُغَةِ العَرَبِ، لِأنَّها أصْلَحُ اللُّغاتِ جَمْعَ مَعانٍ، وإيجازَ عِبارَةٍ، وسُهُولَةَ جَرْيٍ عَلى الألْسُنِ، وسُرْعَةَ حِفْظٍ، وجَمالَ وقْعٍ في الأسْماعِ، وجُعِلَتِ الأُمَّةُ العَرَبِيَّةُ هي المُتَلَقِّيَةَ لِلْكِتابِ بادِئَ ذِي بَدْءٍ، وعُهِدَ إلَيْها نَشْرُهُ بَيْنَ الأُمَمِ.

وفِي التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ لِيُبَيِّنَ لَهم إيماءٌ إلى هَذا المَعْنى، لِأنَّهُ لَمّا كانَ المَقْصُودُ مِنَ التَّشْرِيعِ البَيانَ كانَتْ أقْرَبُ اللُّغاتِ إلى التَّبْيِينِ مِن بَيْنِ لُغاتِ الأُمَمِ المُرْسَلِ إلَيْهِمْ هي اللُّغَةُ الَّتِي هي أجْدَرُ بِأنْ يَأْتِيَ الكِتابُ بِها، قالَ تَعالى ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: ١٩٣] . فَهَذا كُلُّهُ مِن مَطاوِي هَذِهِ الآيَةِ.

ولَكِنْ لَمّا كانَ المَقْصُودُ مِن سِياقِها الرَّدُّ عَلى طَعْنِهِمْ في القُرْآنِ بِأنَّهُ نَزَلَ بِلُغَةٍ لَمْ يَنْزِلْ بِها كِتابٌ قَبْلَهُ اقْتَصَرَ في رَدِّ خَطَئِهِمْ عَلى أنَّهُ إنَّما كانَ كَذَلِكَ لِيُبَيِّنَ لَهم؛ لِأنَّ ذَلِكَ هو الَّذِي يُهِمُّهم.

صفحة ١٨٨

وتَفْرِيعُ قَوْلِهِ ﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ﴾ الخَ عَلى مَجْمُوعِ جُمْلَةِ ﴿وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾، ولِذَلِكَ جاءَ فِعْلُ يُضِلُّ مَرْفُوعًا غَيْرَ مَنصُوبٍ إذْ لَيْسَ عَطْفًا عَلى فِعْلِ لِيُبَيِّنَ؛ لِأنَّ الإضْلالَ لا يَكُونُ مَعْلُولًا لِلتَّبْيِينِ، ولَكِنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلى الإرْسالِ المُعَلَّلِ بِالتَّبْيِينِ، والمَعْنى أنَّ الإرْسالَ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِحِكْمَةِ التَّبْيِينِ، وقَدْ يَحْصُلُ أثَرُ التَّبْيِينِ بِمَعُونَةِ الِاهْتِداءِ، وقَدْ لا يَحْصُلُ أثَرُهُ بِسَبَبِ ضَلالِ المُبَيَّنِ لَهم، والإضْلالُ والهُدى مِنَ اللَّهِ بِما أعَدَّ في نُفُوسِ النّاسِ مِنِ اخْتِلافِ الِاسْتِعْدادِ.

وجُمْلَةُ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ تَذْيِيلٌ لِأنَّ العَزِيزَ قَوِيٌّ لا يَنْفَلِتُ شَيْءٌ مِن قُدْرَتِهِ ولا يَخْرُجُ عَمّا خُلِقَ لَهُ، والحَكِيمُ يَضَعُ الأشْياءَ مَواضِعَها، فَمَوْضِعُ الإرْسالِ والتَّبْيِينِ يَأْتِي عَلى أكْمَلِ وجْهٍ مِنَ الإرْشادِ، ومَوْقِعُ الإضْلالِ والهُدى هو التَّكْوِينُ الجارِي عَلى أنْسَبِ حالٍ بِأحْوالِ المُرْسَلِ إلَيْهِمْ، فالتَّبْيِينُ مِن مُقْتَضى أمْرِ التَّشْرِيعِ والإضْلالِ مِن مُقْتَضى أمْرِ التَّكْوِينِ.