صفحة ٢٥٠

﴿وقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهم وعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهم وإنْ كانَ مَكْرُهم لِتَزُولَ مِنهُ الجِبالُ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَطْفَ خَبَرٍ عَلى خَبَرٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ النّاسِ في قَوْلِهِ ﴿وأنْذِرِ النّاسَ﴾ [إبراهيم: ٤٤]، أيْ: أنْذِرْهم في حالِ وُقُوعِ مَكْرِهِمْ.

والمَكْرُ: تَبْيِيتُ فِعْلِ السُّوءِ بِالغَيْرِ وإضْمارُهُ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومَكَرُوا ومَكَرَ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٥٤] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ، وفي قَوْلِهِ ﴿أفَأمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ﴾ [الأعراف: ٩٩] في سُورَةِ الأعْرافِ.

وانْتَصَبَ ”مَكْرَهُمُ“ الأوَّلُ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلِ مَكَرُوا لِبَيانِ النَّوْعِ، أيِ: المَكْرَ الَّذِي اشْتَهَرُوا بِهِ، فَإضافَةُ (مَكْرٍ) إلى ضَمِيرِ (هم) مِن إضافَةِ المَصْدَرِ إلى فاعِلِهِ. وكَذَلِكَ إضافَةُ ”مَكْرٍ“ الثّانِي إلى ضَمِيرِ (هم) .

والعِنْدِيَّةُ إمّا عِنْدِيَّةُ عِلْمٍ، أيْ: وفي عِلْمِ اللَّهِ مَكْرُهم، فَهو تَعْرِيضٌ بِالوَعِيدِ والتَّهْدِيدِ بِالمُؤاخَذَةِ بِسُوءِ فِعْلِهِمْ، وإمّا عِنْدِيَّةُ تَكْوِينِ ما سُمِّيَ بِمَكْرِ اللَّهِ، وتَقْدِيرُهُ في إرادَةِ اللَّهِ، فَيَكُونُ وعِيدًا بِالجَزاءِ عَلى مَكْرِهِمْ.

وقَرَأ الجُمْهُورُ لِتَزُولَ بِكَسْرِ اللّامِ وبِنَصْبِ الفِعْلِ المُضارِعِ بَعْدَها فَتَكُونُ (إنْ) نافِيَةً ولامُ (لِتَزُولَ) لامَ الجُحُودِ، أيْ: وما كانَ مَكْرُهم زائِلَةً مِنهُ الجِبالُ، وهو اسْتِخْفافٌ بِهِمْ، أيْ: لَيْسَ مَكْرُهم بِمُتَجاوِزِ مَكْرِ أمْثالِهِمْ، وما هو بِالَّذِي تَزُولُ مِنهُ الجِبالُ، وفي هَذا تَعْرِيضٌ بِأنَّ الرَّسُولَ ﷺ والمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُرِيدُ المُشْرِكُونَ المَكْرَ بِهِمْ لا يُزَعْزِعُهم مَكْرُهم؛لِأنَّهم كالجِبالِ الرَّواسِي.

وقَرَأ الكِسائِيُّ - وحْدَهُ - بِفَتْحِ اللّامِ الأُولى مِن لِتَزُولَ ورَفْعِ اللّامِ الثّانِيَةِ عَلى أنْ تَكُونَ (إنْ) مُخَفَّفَةً مِن (إنَّ) المُؤَكِّدَةِ وقَدْ أكْمَلَ إعْمالَها، واللّامُ فارِقَةٌ بَيْنَها وبَيْنَ النّافِيَةِ، فَيَكُونُ الكَلامُ إثْباتًا لِزَوالِ الجِبالِ مِن مَكْرِهِمْ، أيْ: هو

صفحة ٢٥١

مَكْرٌ عَظِيمٌ لَتَزُولُ مِنهُ الجِبالُ لَوْ كانَ لَها أنْ تَزُولَ، أيْ: جَدِيرَةٌ، فَهو مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنى الجَدارَةِ والتَّأهُّلِ لِلزَّوالِ لَوْ كانَتْ زائِلَةً، وهَذا مِنَ المُبالَغَةِ في حُصُولِ أمْرٍ شَنِيعٍ أوْ شَدِيدٍ في نَوْعِهِ عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنهُ وتَنْشَقُّ الأرْضُ وتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّا﴾ [مريم: ٩٠] .