﴿وما أهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ إلّا ولَها كِتابٌ مَعْلُومٌ﴾ ﴿ما تَسْبِقُ مِن أُمَّةٍ أجَلَها وما يَسْتَأْخِرُونَ﴾

اعْتِراضٌ تَذْيِيلِيٌّ؛ لِأنَّ في هَذِهِ الجُمْلَةِ حُكْمًا يَشْمَلُهم وهو حُكْمُ إمْهالِ الأُمَمِ الَّتِي حَقَّ عَلَيْها الهَلاكُ، أيْ: ما أهْلَكْنا أُمَّةً إلّا وقَدْ مَتَّعْناها زَمَنًا وكانَ لِهَلاكِها أجَلٌ ووَقْتٌ مَحْدُودٌ، فَهي مُمَتَّعَةٌ قَبْلَ حُلُولِهِ، وهي مَأْخُوذَةٌ عِنْدَ إبّانِهِ.

صفحة ١٥

وهَذا تَعْرِيضٌ لِتَهْدِيدٍ ووَعِيدٍ مُؤَيَّدٍ بِتَنْظِيرِهِمْ بِالمُكَذِّبِينَ السّالِفِينَ، وإنَّما ذَكَرَ حالَ القُرى الَّتِي أُهْلِكَتْ مِن قَبْلُ لِتَذْكِيرِ هَؤُلاءِ بِسُنَّةِ اللَّهِ في إمْهالِ الظّالِمِينَ؛ لِئَلّا يَغُرَّهم ما هم فِيهِ مِنَ التَّمَتُّعِ فَيَحْسَبُوا أنَّهم أفْلَتُوا مِنَ الوَعِيدِ، وهَذا تَهْدِيدٌ لا يَقْتَضِي أنَّ المُشْرِكِينَ قَدَّرَ اللَّهُ أجَلًا لِهَلاكِهِمْ، فَإنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْتَأْصِلْهم ولَكِنْ هَدى كَثِيرًا مِنهم إلى الإسْلامِ بِالسَّيْفِ وأهْلَكَ سادَتَهم يَوْمَ بَدْرٍ.

والقَرْيَةُ: المَدِينَةُ، وتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿أوْ كالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

والكِتابُ: القَدَرُ المَحْدُودُ عِنْدَ اللَّهِ؛ شُبِّهَ بِالكِتابِ في أنَّهُ لا يَقْبَلُ الزِّيادَةَ والنَّقْصَ، وهو مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ لا يَضِلُّ رَبِّي ولا يَنْسى.

وجُمْلَةُ ﴿ولَها كِتابٌ مَعْلُومٌ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ، وكَفاكَ عِلْمًا عَلى ذَلِكَ اقْتِرانُها بِالواوِ فَهي اسْتِثْناءٌ مِن عُمُومِ أحْوالٍ، وصاحِبُ الحالِ هو قَرْيَةٌ وهو وإنْ كانَ نَكِرَةً فَإنَّ وُقُوعَها في سِياقِ النَّفْيِ سَوَّغَ مَجِيءَ الحالِ مِنهُ كَما سَوَّغَ العُمُومُ صِحَّةَ الإخْبارِ عَنِ النَّكِرَةِ.

وجُمْلَةُ ﴿ما تَسْبِقُ مِن أُمَّةٍ أجَلَها﴾ بَيانٌ لِجُمْلَةِ ”﴿ولَها كِتابٌ مَعْلُومٌ﴾“ لِبَيانِ فائِدَةِ التَّحْدِيدِ: أنَّهُ عَدِمَ المُجاوَزَةِ بَدْءًا وِنَهايَةً.

ومَعْنى (تَسْبِقُ أجَلَها) تَفُوتُهُ، أيْ: تُعْدَمُ قَبْلَ حُلُولِهِ، شَبَّهَ ذَلِكَ بِالسَّبْقِ، ويَسْتَأْخِرُونَ: يَتَأخَّرُونَ؛ فالسِّينُ والتّاءُ لِلتَّأْكِيدِ.

وأُنِّثَ مُفْرَدًا ضَمِيرُ (الأُمَّةِ) مَرَّةً مُراعاةً لِلَّفْظِ، وجُمِعَ مُذَكَّرًا مُراعاةً لِلْمَعْنى، وحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَسْتَأْخِرُونَ لِلْعِلْمِ بِهِ، أيْ: وما يَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ.