﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ﴾ ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ ناشِئٌ عَنْ سُؤالٍ يَخْطُرُ بِبالِ السّامِعِ لِقَوْلِهِ ﴿وما يَأْتِيهِمْ مِن رَسُولٍ إلّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الحجر: ١١] فَيَتَساءَلُ كَيْفَ تَوارَدَتْ هَذِهِ الأُمَمُ عَلى طَرِيقٍ واحِدٍ مِنَ الضَّلالِ فَلَمْ تُفِدْهم دَعْوَةُ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - كَما قالَ تَعالى أتَواصَوْا بِهِ بَلْ هم قَوْمٌ طاغُونَ.

صفحة ٢٤

والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا ناشِئًا عَنْ جُمْلَةِ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ؛ إذْ قَدْ يَخْطُرُ بِالبالِ أنَّ حِفْظَ الذِّكْرِ يَقْتَضِي أنْ لا يَكْفُرَ بِهِ مَن كَفَرَ، فَأُجِيبَ بِأنَّ ذَلِكَ عِقابٌ مِنَ اللَّهِ لَهم لِإجْرامِهِمْ وتَلَقِّيهِمُ الحَقَّ بِالسُّخْرِيَةِ وعَدَمِ التَّدَبُّرِ، ولِأجْلِ هَذا اخْتِيرَ لَهم وصْفُ المُجْرِمِينَ دُونَ الكافِرِينَ؛ لِأنَّ وصْفَ الكُفْرِ صارَ لَهم كاللَّقَبِ لا يُشْعِرُ بِمَعْنى التَّعْلِيلِ. ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ في الآيَةِ الأُخْرى ﴿وأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٥] .

والتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ المُضارِعِ في ”نَسْلُكُهُ“ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ المَقْصُودَ إسْلاكٌ في زَمَنِ الحالِ، أيْ: زَمَنِ نُزُولِ القُرْآنِ، لِيُعْلَمَ أنَّ المَقْصُودَ بَيانُ تَلَقِّي المُشْرِكِينَ لِلْقُرْآنِ، فَلا يُتَوَهَّمُ أنَّ المُرادَ بِالمُجْرِمِينَ شِيَعُ الأوَّلِينَ مَعَ ما يُفِيدُهُ المُضارِعُ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى التَّجْدِيدِ المُناسِبِ لِقَوْلِهِ: ”وقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ“، أيْ: تَجَدَّدَ لِهَؤُلاءِ إبْلاغُ القُرْآنِ عَلى سُنَّةِ إبْلاغِ الرِّسالاتِ لِمَن قَبْلَهم. وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأنَّ ذَلِكَ إعْذارٌ لَهم لِيَحِلَّ بِهِمُ العَذابُ كَما حَلَّ بِمَن قَبْلَهم.

والمُشارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (كَذَلِكَ) هو السَّلْكُ المَأْخُوذُ مِن ”نَسْلُكُهُ“ عَلى طَرِيقَةِ أمْثالِها المُقَرَّرَةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

والسَّلْكُ: الإدْخالُ. قالَ الأعْشى:

كَما سَلَكَ السَّكِّيُّ في البابِ فَيْتَقُ

أيْ: مِثْلُ السَّلْكِ الَّذِي سَنَصِفُهُ (نَسْلُكُ الذِّكْرَ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ)، أيْ: هَكَذا نُولِجُ القُرْآنَ في عُقُولِ المُشْرِكِينَ، فَإنَّهم يَسْمَعُونَهُ ويَفْهَمُونَهُ إذْ هو مِن كَلامِهِمْ ويُدْرِكُونَ خَصائِصَهُ، ولَكِنَّهُ لا يَسْتَقِرُّ في عُقُولِهِمُ اسْتِقْرارَ تَصْدِيقٍ بِهِ، بَلْ هم مُكَذِّبُونَ بِهِ، كَما قالَ تَعالى ﴿وإذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنهم مَن يَقُولُ أيُّكم زادَتْهُ هَذِهِ إيمانًا فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهم إيمانًا وهم يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٤] ﴿وأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ وماتُوا وهم كافِرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٥] .

صفحة ٢٥

وبِهَذا السُّلُوكُ تَقُومُ الحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِتَبْلِيغِ القُرْآنِ إلَيْهِمْ ويُعادُ إسْماعُهم إيّاهُ المَرَّةَ بَعْدَ المَرَّةِ لِتَقُومَ الحُجَّةُ.

فَضَمِيرُ ”نَسْلُكُهُ“ وبِهِ عائِدانِ إلى الذِّكْرِ في قَوْلِهِ ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ﴾ [الحجر: ٩] أيِ: القُرْآنِ.

والمُجْرِمُونَ هم كُفّارُ قُرَيْشٍ.

وجُمْلَةُ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ بَيانٌ لِلسَّلْكِ المُشَبَّهِ بِهِ أوْ حالٌ مِنَ المُجْرِمِينَ، أيْ: تَعِيَهُ عُقُولُهم ولا يُؤْمِنُونَ بِهِ، وهَذا عامٌّ مُرادٌ بِهِ مَن ماتُوا عَلى الكُفْرِ مِنهم، والمُرادُ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ وقْتًا ما.

وجُمْلَةُ ﴿وقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ﴾ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ”﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾“ وجُمْلَةِ ولَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابًا مِنَ السَّماءِ الخَ.

والكَلامُ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ بِأنْ يَحِلَّ بِهِمْ ما حَلَّ بِالأُمَمِ الماضِيَةِ مُعامَلَةً لِلنَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ؛ لِأنَّ كَوْنَ سُنَّةِ الأوَّلِينَ مَضَتْ أمْرٌ مَعْلُومٌ غَيْرُ مُفِيدٍ ذِكْرُهُ، فَكانَ الخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا في لازِمِهِ بِقَرِينَةِ تَعَذُّرِ الحَمْلِ عَلى أصْلِ الخَبَرِيَّةِ.

والسُّنَّةُ: العادَةُ المَأْلُوفَةُ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكم سُنَنٌ﴾ [آل عمران: ١٣٧] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ، وإضافَتُها إلى الأوَّلِينَ بِاعْتِبارِ تَعَلُّقِها بِهِمْ، وإنَّما هي سُنَّةُ اللَّهِ فِيهِمْ؛ لِأنَّها المَقْصُودُ هُنا، والإضافَةُ لِأدْنى مُلابَسَةٍ.