صفحة ٣٦

﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾

هَذا اعْتِراضٌ ناشِئٌ عَنْ قَوْلِهِ ﴿وأنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ [الحجر: ١٩]، وهو تَذْيِيلٌ.

والمُرادُ بِـ (الشَّيْءِ) ما هو نافِعٌ لِلنّاسِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ ﴿وأنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ [الحجر: ١٩] الآيَةَ، وفي الكَلامِ حَذْفُ الصِّفَةِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ [الكهف: ٧٩] أيْ: سَفِينَةٍ صالِحَةٍ.

والخَزائِنُ تَمْثِيلٌ لِصُلُوحِيَّةِ القُدْرَةِ الإلَهِيَّةِ لِتَكْوِينِ الأشْياءِ النّافِعَةِ، شُبِّهَتْ هَيْئَةُ إيجادِ الأشْياءِ النّافِعَةِ بِهَيْئَةِ إخْراجِ المَخْزُوناتِ مِنَ الخَزائِنِ عَلى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ المَكْنِيَّةِ، ورُمِزَ إلى الهَيْئَةِ المُشَبَّهِ بِها بِما هو مِن لَوازِمِها وهو الخَزائِنُ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ لا أقُولُ لَكم عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ٥٠] في سُورَةِ الأنْعامِ.

وشَمَلَ ذَلِكَ الأشْياءَ المُتَفَرِّقَةَ في العالَمِ الَّتِي تَصِلُ إلى النّاسِ بِدَوافِعَ وأسْبابٍ تَسْتَتِبُّ في أحْوالٍ مَخْصُوصَةٍ، أوْ بِتَرْكِيبِ شَيْءٍ مَعَ شَيْءٍ مِثْلَ نُزُولِ البَرْدِ مِنَ السَّحابِ، وانْفِجارِ العُيُونِ مِنَ الأرْضِ بِقَصْدٍ أوْ عَلى وجْهِ المُصادَفَةِ.

وقَوْلُهُ ﴿وما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ أُطْلِقَ الإنْزالُ عَلى تَمْكِينِ النّاسِ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي خَلَقَها اللَّهُ لِنَفْعِهِمْ، قالَ تَعالى ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ، إطْلاقًا مَجازِيًّا؛ لِأنَّ ما خَلَقَهُ اللَّهُ لَمّا كانَ مِن أثَرِ أمْرِ التَّكْوِينِ الإلَهِيِّ شَبَّهَ تَمْكِينَ النّاسِ مِنهُ بِإنْزالِ شَيْءٍ مِن عُلُوٍّ بِاعْتِبارِ أنَّهُ مِنَ العالَمِ اللَّدُنِّيِّ، وهو عُلُوٌّ مَعْنَوِيٌّ. أوْ بِاعْتِبارِ أنَّ تَصارِيفَ الأُمُورِ كائِنٌ في العَوالِمِ العُلْوِيَّةِ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وأنْزَلَ لَكم مِنَ الأنْعامِ ثَمانِيَةَ أزْواجٍ﴾ [الزمر: ٦] في سُورَةِ الزُّمُرِ، وقَوْلِهِ تَعالى ﴿يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ [الطلاق: ١٢] في سُورَةِ الطَّلاقِ.

صفحة ٣٧

والقَدَرُ بِفَتْحِ الدّالِّ: التَّقْدِيرُ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها﴾ [الرعد: ١٧] في سُورَةِ الرَّعْدِ.

والمُرادُ بِهِ مَعْلُومٌ أنَّهُ مَعْلُومُ تَقْدِيرِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.