﴿وأرْسَلْنا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأسْقَيْناكُمُوهُ وما أنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ﴾

انْتِقالٌ مِنَ الِاسْتِدْلالِ بِظَواهِرِ السَّماءِ وظَواهِرِ الأرْضِ إلى الِاسْتِدْلالِ بِظَواهِرِ كُرَةِ الهَواءِ الواقِعَةِ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، وذَلِكَ لِلِاسْتِدْلالِ بِفِعْلِ الرِّياحِ والمِنَّةِ بِما فِيها مِنَ الفَوائِدِ.

والإرْسالُ: مَجازٌ في نَقْلِ الشَّيْءِ مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الرِّياحَ مُسْتَمِرَّةُ الهُبُوبِ في الكُرَةِ الهَوائِيَّةِ، وهي تَظْهَرُ في مَكانٍ آتِيَةٍ إلَيْهِ مِن مَكانٍ آخَرَ وهَكَذا. . .

ولَواقِحَ حالٌ مِنَ الرِّياحِ، وقَعَ هَذا الحالُ إدْماجًا لِإفادَةِ مَعْنَيَيْنِ كَما سَيَأْتِي عَنْ مالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.

ولَواقِحَ صالِحٌ لِأنْ يَكُونَ جَمْعُ لاقِحٍ وهي: النّاقَةُ الحُبْلى، واسْتُعْمِلَ هُنا اسْتِعارَةً لِلرِّيحِ المُشْتَمِلَةِ عَلى الرُّطُوبَةِ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا في نُزُولِ المَطَرِ، كَما اسْتُعْمِلَ في ضِدِّها العَقِيمُ ضِدُّ اللّاقِحِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إذْ أرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ العَقِيمَ﴾ [الذاريات: ٤١] .

وصالِحٌ لِأنْ يَكُونَ جَمْعُ مُلَقِّحٍ وهو: الَّذِي يَجْعَلُ غَيْرَهُ لاقِحًا، أيِ: الفَحْلُ إذا ألْقَحَ النّاقَةَ، فَإنَّ (فَواعِلَ) يَجِيءُ جَمْعَ مُفْعِلٍ مُذَكَّرٍ نادِرًا كَقَوْلِ الحارِثِ أوْ ضِرارٍ النَّهْشَلَيِّ:

صفحة ٣٨

لَبَّيْكَ يَزِيدُ ضارِعٌ لِخُصُومَةٍ ومُخْتَبِطٌ مِمّا تَطِيحُ الطَّوايِحُ

رُوعِيَ فِيهِ جَوازُ تَأْنِيثِ المُشَبَّهِ بِهِ، وهي جَمْعُ الفُحُولِ؛لِأنَّ جَمْعَ ما لا يَعْقِلُ يَجُوزُ تَأْنِيثُهُ.

ومَعْنى الإلْقاحِ أنَّ الرِّياحَ تُلَقِّحُ السَّحابَ بِالماءِ بِتَوْجِيهِ عَمِلِ الحَرارَةِ والبُرُودَةِ مُتَعاقِبَيْنِ فَيَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ البُخارُ الَّذِي يَصِيرُ ماءً في الجَوِّ ثُمَّ يَنْزِلُ مَطَرًا عَلى الأرْضِ، وأنَّها تُلَقِّحُ الشَّجَرَ ذِي الثَّمَرَةِ بِأنْ تَنْقُلَ إلى نَوْرِهِ غَبْرَةً دَقِيقَةً مِن نَوْرِ الشَّجَرِ الذَّكَرِ فَتَصْلُحُ ثَمَرَتُهُ أوْ تَثْبُتُ، وبِدُونِ ذَلِكَ لا تَثْبُتُ أوْ لا تَصْلُحُ، وهَذا هو الإبّارُ، وبَعْضُهُ لا يَحْصُلُ إلّا بِتَعْلِيقِ الطَّلْعِ الذَّكَرِ عَلى الشَّجَرَةِ المُثْمِرَةِ، وبَعْضُهُ يُكْتَفى مِنهُ بِغَرْسِ شَجَرَةٍ ذَكَرٍ في خِلالِ شَجَرِ الثَّمَرِ.

ومِن بَلاغَةِ الآيَةِ إيرادُ هَذا الوَصْفِ لِإفادَةِ كِلا العَمَلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَعْمَلُهُما الرِّياحُ، وقَدْ فُسِّرَتِ الآيَةُ بِهِما، واقْتَصَرَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّها لَواقِحُ السَّحابِ بِالمَطَرِ.

ورَوى أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ عَنْ مالِكٍ أنَّهُ قالَ: قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿وأرْسَلْنا الرِّياحَ لَواقِحَ﴾ فَلِقاحُ القَمْحِ عِنْدِي أنْ يُحَبِّبَ ويُسَنْبِلَ، ولا أُرِيدُ ما يَيْبَسُ في أكْمامِهِ، ولَكِنْ يُحَبَّبُ حَتّى يَكُونَ لَوْ يَبِسَ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ فَسادًا لا خَيْرَ فِيهِ، ولَقاحُ الشَّجَرِ كُلِّها أنْ تُثْمِرَ ثُمَّ يَسْقُطُ مِنها ما يَسْقُطُ ويَثْبُتُ ما يَثْبُتُ.

وفَرْعُ قَوْلِهِ ﴿فَأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ عَلى قَوْلِهِ ﴿وأرْسَلْنا الرِّياحَ﴾ .

وقَرَأ حَمْزَةُ (وأرْسَلَنا الرِّيحَ لَواقِحَ) بِإفْرادِ (الرِّيحِ) وجَمْعِ (لَواقِحَ) عَلى إرادَةِ الجِنْسِ والجِنْسِ لَهُ عِدَّةُ أفْرادٍ.

وأسْقَيْناكُمُوهُ بِمَعْنى جَعَلْناهُ سُقْيًا، فالهَمْزَةُ فِيهِ لِلْجَعْلِ، وكَثُرَ إطْلاقُ أسْقى بِمَعْنى سَقى.

صفحة ٣٩

واسْتُعْمِلَ الخَزْنُ هُنا في مَعْنى الخَزْنِ في قَوْلِهِ آنِفًا ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ﴾ [الحجر: ٢١] أيْ: وما أنْتُمْ لَهُ بِمُحافِظِينَ ومُنْشِئِينَ عِنْدَما تُرِيدُونَ.