﴿وسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهارَ والشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأمْرِهِ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ آياتٌ أُخْرى عَلى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعالى، وعِلْمِهِ مَمْزُوجَةٌ بِامْتِنانٍ.

وتَقَدَّمَ ما يُفَسِّرُ هَذِهِ الآيَةَ في صَدْرِ سُورَةِ يُونُسَ، وتَسْخِيرُ هَذِهِ الأشْياءِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿والشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ﴾ [الأعراف: ٥٤] في أوائِلِ سُورَةِ الأعْرافِ، وفي أوائِلِ سُورَةِ الرَّعْدِ وفي سُورَةِ إبْراهِيمَ.

وهَذا انْتِقالٌ لِلِاسْتِدْلالِ بِإتْقانِ الصُّنْعِ عَلى وحْدانِيَّةِ الصّانِعِ وعِلْمِهِ، وإدْماجٌ بَيْنَ الِاسْتِدْلالِ والِامْتِنانِ، ونِيطَتِ الدَّلالاتُ بِوَصْفِ العَقْلِ؛ لِأنَّ أصْلَ العَقْلِ كافٍ في الِاسْتِدْلالِ بِها عَلى الوَحْدانِيَّةِ والقُدْرَةِ، إذْ هي دَلائِلُ بَيِّنَةٌ واضِحَةٌ حاصِلَةٌ بِالمُشاهَدَةِ كُلَّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ.

وتَقَدَّمَ وجْهُ إقْحامِ لَفْظِ قَوْمٍ آنِفًا، وأنَّ الجُمْلَةَ تَذْيِيلٌ.

وقَرَأ الجُمْهُورُ جَمِيعَ هَذِهِ الأسْماءِ مَنصُوبَةً عَلى المَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ سَخَّرَ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ ﴿والشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومُ﴾ بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ، ورَفَعَ (مُسَخَّراتٌ) عَلى أنَّهُ خَبَرٌ عَنْها، فَنُكْتَةُ اخْتِلافِ الإعْرابِ الإشارَةُ إلى الفَرْقِ بَيْنَ التَّسْخِيرَيْنِ، وقَرَأ حَفْصٌ بِرَفْعِ (النُّجُومُ) و(مُسَخَّراتٌ)، ونُكْتَةُ اخْتِلافِ الأُسْلُوبِ الفَرْقُ بَيْنَ التَّسْخِيرَيْنِ مِن حَيْثُ إنَّ الأوَّلَ واضِحٌ، والآخَرَ خَفِيٌّ لِقِلَّةِ مَن يَرْقُبُ حَرَكاتِ النُّجُومِ.

والمُرادُ بِأمْرِهِ: أمْرُ التَّكْوِينِ لِلنِّظامِ الشَّمْسِيِّ المَعْرُوفِ.

وقَدْ أبْدى الفَخْرُ في كِتابِ (دُرَّةِ التَّنْزِيلِ) وجْهًا لِلْفَرْقِ بَيْنَ إفْرادِ (آيَةً) في المَرَّةِ الأُولى والثّالِثَةِ، وبَيْنَ جَمْعِ (آياتٍ) في المَرَّةِ الثّانِيَةِ: بِأنَّ ما ذُكِرَ

صفحة ١١٧

أوَّلًا وثالِثًا يَرْجِعُ إلى ما نَجَمَ مِنَ الأرْضِ، فَجَمِيعُهُ آيَةٌ واحِدَةٌ تابِعَةٌ لِخَلْقِ الأرْضِ، وما تَحْتَوِيهِ (أيْ وهو كُلُّهُ ذُو حالَةٍ واحِدَةٍ وهي حالَةُ النَّباتِ في الأرْضِ في الأوَّلِ وحالَةٌ واحِدَةٌ وهي حالَةُ الذَّرْءِ في التَّناسُلِ في الحَيَوانِ في الآيَةِ الثّالِثَةِ) وأمّا ما ذُكِرَ في المَرَّةِ الثّانِيَةِ فَإنَّهُ راجِعٌ إلى اخْتِلافِ أحْوالِ الشَّمْسِ والقَمَرِ والكَواكِبِ، وفي كُلِّ واحِدٍ مِنها نِظامٌ يَخُصُّهُ، ودَلائِلُ تُخالِفُ دَلائِلَ غَيْرِهِ، فَكانَ ما ذُكِرَ في ذَلِكَ مَجْمُوعُ آياتٍ (أيْ لِأنَّ بَعْضَها أعْراضٌ كاللَّيْلِ والنَّهارِ وبَعْضَها أجْرامٌ لَها أنْظِمَةٌ مُخْتَلِفَةٌ ودَلالاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ) .