﴿وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ إلّا رِجالًا يُوحى إلَيْهِمْ فَسَألُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ ﴿بِالبَيِّناتِ والزُّبُرِ﴾ [النحل: ٤٤] .

كانَتِ الآياتُ السّابِقَةُ جارِيَةً عَلى حِكايَةِ تَكْذِيبِ المُشْرِكِينَ نُبُوءَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، وإنْكارِهِمْ أنَّهُ مُرْسَلٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ وأنَّ القُرْآنَ وحْيُ اللَّهِ إلَيْهِ، ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذا قِيلَ لَهم ماذا أنْزَلَ رَبُّكم قالُوا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ [النحل: ٢٤]، ورَدِّ مَزاعِمِهِمُ الباطِلَةِ بِالأدِلَّةِ القارِعَةِ لَهم مُتَخَلِّلًا بِما أُدْمِجَ في أثْنائِهِ مِن مَعانٍ أُخْرى تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، فَعادَ هُنا إلى إبْطالِ شُبْهَتِهِمْ في إنْكارِ نُبُوءَتِهِ مِن أنَّهُ بَشَرٌ لا يَلِيقُ بِأنْ يَكُونَ سَفِيرًا بَيْنَ اللَّهِ والنّاسِ، إبْطالًا بِقِياسِ التَّمْثِيلِ بِالرُّسُلِ الأسْبَقِينَ الَّذِينَ لا تُنْكِرُ قُرَيْشٌ رِسالَتَهم مِثْلُ نُوحٍ وإبْراهِيمَ - عَلَيْهِما السَّلامُ -، وهَذا يَنْظُرُ إلى قَوْلِهِ في أوَّلِ السُّورَةِ ﴿يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِن أمْرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ [النحل: ٢] .

وقَدْ غُيِّرَ أُسْلُوبُ نَظْمِ الكَلامِ هُنا بِتَوْجِيهِ الخِطابِ إلى النَّبِيءِ ﷺ بَعْدَ أنْ كانَ جارِيًا عَلى أُسْلُوبِ الغَيْبَةِ ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿فالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهم مُنْكِرَةٌ﴾ [النحل: ٢٢]، وقَوْلِهِ تَعالى ﴿وقالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا﴾ [النحل: ٣٥] الآيَةَ، تَأْنِيسًا لِلنَّبِيءِ ﷺ؛ لِأنَّ فِيما مَضى مِنَ

صفحة ١٦١

الكَلامِ آنِفًا حِكايَةُ تَكْذِيبِهِمْ إيّاهُ تَصْرِيحًا وتَعْرِيضًا، فَأقْبَلَ اللَّهُ عَلى الرَّسُولِ ﷺ بِالخِطابِ؛ لِما في هَذا الكَلامِ مِن تَنْوِيهِ مَنزِلَتِهِ بِأنَّهُ في مَنزِلَةِ الرُّسُلِ الأوَّلِينَ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - .

وفِي هَذا الخِطابِ تَعْرِيضٌ بِالمُشْرِكِينَ، ولِذَلِكَ التَفَتَ إلى خِطابِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿فاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ﴾ .

وصِيغَةُ القَصْرِ لِقَلْبِ اعْتِقادِ المُشْرِكِينَ وقَوْلِهِمْ ﴿أبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: ٩٤]، فَقُصِرَ الإرْسالُ عَلى التَّعَلُّقِ بِرِجالٍ مَوْصُوفِينَ بِأنَّهم يُوحى إلَيْهِمْ.

ثُمَّ أشْهَدَ عَلى المُشْرِكِينَ بِشَواهِدِ الأُمَمِ الماضِيَةِ، وأقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالخِطابِ تَوْبِيخًا لَهم؛ لِأنَّ التَّوْبِيخَ يُناسِبُهُ الخِطابُ؛ لِكَوْنِهِ أوْقَعَ في نَفْسِ المُوَبَّخِ، فاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ ﴿فاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ إلَخْ، فَهَذا احْتِجاجٌ بِأهْلِ الأدْيانِ السّابِقِينَ أهْلِ الكُتُبِ اليَهُودِ والنَّصارى والصّابِئَةِ.

والذِّكْرُ: كِتابُ الشَّرِيعَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقالُوا يا أيُّها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ﴾ [الحجر: ٦] في أوَّلِ الحِجْرِ.

وفِي قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ إيماءً إلى أنَّهم يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، ولَكِنَّهم قَصَدُوا المُكابَرَةَ والتَّمْوِيهَ؛ لِتَضْلِيلِ الدَّهْماءِ، فَلِذَلِكَ جِيءَ في الشَّرْطِ بِحَرْفِ (إنَّ) الَّتِي تَرِدُ في الشَّرْطِ المَظْنُونِ عَدَمَ وُجُودِهِ.

وجُمْلَةُ ﴿فاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ﴾ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وما أرْسَلْنا وبَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿بِالبَيِّناتِ والزُّبُرِ﴾ [النحل: ٤٤] .

والجُمْلَةُ المُعْتَرِضَةُ تَقْتَرِنُ بِالفاءِ إذا كانَ مَعْنى الجُمْلَةِ مُفَرَّعًا عَلى ما قَبْلَهُ، وقَدْ جَعَلَها في الكَشّافِ مُعْتَرِضَةً عَلى اعْتِبارِ وُجُوهٍ ذَكَرَها في مُتَعَلِّقِ قَوْلِهِ تَعالى بِالبَيِّناتِ.

ونُقِلَ عَنْهُ في سُورَةِ الإنْسانِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ [الإنسان: ٢٩] أنَّهُ لا تَقْتَرِنُ الجُمْلَةُ المُعْتَرِضَةُ بِالفاءِ، وتَرَدَّدَ صاحِبُ الكَشّافِ في صِحَّةِ ذَلِكَ عَنْهُ؛ لِمُخالَفَتِهِ كَلامَهُ في آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ.

صفحة ١٦٢

وقَوْلُهُ (بِالبَيِّناتِ) مُتَعَلِّقٌ بِمُسْتَقَرِّ صِفَةٍ أوْ حالًا مِن (رِجالًا)، وفي تَعَلُّقِهِ وُجُوهٌ أُخَرُ ذَكَرَها في الكَشّافِ، والباءُ لِلْمُصاحَبَةِ، أيْ مَصْحُوبِينَ بِالبَيِّناتِ والزُّبُرِ، فالبَيِّناتُ دَلائِلُ الصِّدْقِ مِن مُعْجِزاتٍ أوْ أدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ، وقَدِ اجْتَمَعَ ذَلِكَ في القُرْآنِ، وافْتَرَقَ بَيْنَ الرُّسُلِ الأوَّلِينَ كَما تَفَرَّقَ مِنهُ كَثِيرٌ لِرَسُولِنا ﷺ .

والزُّبُرُ جَمْعُ زَبُورٍ، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ الزَّبْرِ، أيِ الكِتابَةِ، فَفَعُولُ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، والزُّبُرُ الكُتُبُ الَّتِي كُتِبَ فِيها ما أُوحِيَ إلى الرُّسُلِ مِثْلُ صُحُفِ إبْراهِيمَ والتَّوْراةِ وما كَتَبَهُ الحَوارِيُّونَ مِنَ الوَحْيِ إلى عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -، وإنْ لَمْ يَكْتُبْهُ عِيسى.

ولَعَلَّ عَطْفَ (بِالزُّبُرِ) عَلى (بِالبَيِّناتِ) عَطْفُ تَقْسِيمٍ بِقَصْدِ التَّوْزِيعِ، أيْ بَعْضُهم مَصْحُوبٌ بِالبَيِّناتِ وبَعْضُهم بِالأمْرَيْنِ؛ لِأنَّهُ قَدْ تَجِئُ رُسُلٌ بِدُونِ كُتُبٍ، مِثْلُ حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوانَ رَسُولِ أهْلِ الرَّسِّ، وخالِدِ بْنِ سِنانٍ رَسُولِ عَبْسٍ، ولَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ لِنُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كِتابًا.

وقَدْ تُجْعَلُ الزُّبُرُ خاصَّةً بِالكُتُبِ الوَجِيزَةِ الَّتِي لَيْسَتْ فِيها شَرِيعَةٌ واسِعَةٌ مِثْلُ صُحُفِ إبْراهِيمَ وزَبُورِ داوُدَ - عَلَيْهِما السَّلامُ - والإنْجِيلُ كَما فَسَّرُوها بِهِ في سُورَةِ فاطِرٍ.