﴿واللَّهُ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأحْيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾

انْتَهى الكَلامُ المُعْتَرَضُ بِهِ، وعادَ الكَلامُ إلى دَلائِلِ الِانْفِرادِ بِالخَلْقِ مَعَ ما أُدْمِجَ فِيهِ ذَلِكَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ، فَهَذِهِ مِنَّةٌ مِنَ المِنَنِ وعِبْرَةٌ مِنَ العِبَرِ وحُجَّةٌ مِنَ الحُجَجِ المُتَفَرِّعَةِ عَنِ التَّذْكِيرِ بِنِعَمِ اللَّهِ والِاعْتِبارِ بِعَجِيبِ صُنْعِهِ.

عادَ الكَلامُ إلى تَعْدادِ نِعَمٍ جَمَّةٍ، ومَعَها ما فِيها مِنَ العِبَرِ أيْضًا جَمْعًا عَجِيبًا بَيْنَ الِاسْتِدْلالِ، ووَصْلًا لِلْكَلامِ المُفارِقِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وبِالنَّجْمِ هم يَهْتَدُونَ﴾ [النحل: ١٦]، كَما عَلِمْتَهُ فِيما تَقَدَّمَ، فَكانَ ذِكْرُ إنْزالِ الماءِ في الآيَةِ السّابِقَةِ مَسُوقًا مَساقَ الِاسْتِدْلالِ، وهو هُنا مَسُوقٌ مَساقَ الِامْتِنانِ بِنِعْمَةِ إحْياءِ الأرْضِ بَعْدَ مَوْتِها بِالماءِ النّازِلِ مِنَ السَّماءِ.

وبِهَذا الِاعْتِبارِ خالَفَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ النِّعْمَةَ المَذْكُورَةَ في قَوْلِهِ سابِقًا ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكم مِنهُ شَرابٌ ومِنهُ شَجَرٌ﴾ [النحل: ١٠] بِاخْتِلافِ الغَرَضِ الأوَّلِيِّ، فَهو هُنالِكَ الِاسْتِدْلالُ بِتَكْوِينِ الماءِ، وهُنا الِامْتِنانُ.

وبِناءُ الجُمْلَةِ عَلى المُسْنَدِ الفِعْلِيِّ لِإفادَةِ التَّخْصِيصِ، أيِ اللَّهُ لا غَيْرُهُ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، وذَلِكَ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى ﴿هَلْ مِن شُرَكائِكم مَن يَفْعَلُ مِن ذَلِكم

صفحة ١٩٨

مِن شَيْءٍ﴾ [الروم: ٤٠]، وإظْهارُ اسْمِ الجَلالَةِ دُونَ الإضْمارِ الَّذِي هو مُقْتَضى الظّاهِرِ لِقَصْدِ التَّنْوِيهِ بِالخَبَرِ إذِ افْتُتِحَ بِهَذا الِاسْمِ، ولِأنَّ دَلالَةَ الِاسْمِ العَلَمِ أوْضَحُ وأصْرَحُ، فَهو مُقْتَضى مَقامِ تَحْقِيقِ الِانْفِرادِ بِالخَلْقِ والإنْعامِ دُونَ غَيْرِهِ مِن شُرَكائِهِمْ؛ لِأنَّ المُشْرِكِينَ يُقِرُّونَ بِأنَّ اللَّهَ هو فاعِلُ هَذِهِ الأشْياءِ.

وإحْياءُ الأرْضِ: إخْراجُ ما فِيهِ الحَياةُ، وهو الكَلَأُ والشَّجَرُ، ومَوْتُها ضِدُّ ذَلِكَ، فَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (أحْيا) إلى الأرْضِ تَعْدِيَةٌ مَجازِيَّةٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَأحْيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها﴾ [البقرة: ١٦٤] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وتَقَدَّمَ وجْهُ العِبْرَةِ في آيَةِ نُزُولِ المَطَرِ هُنالِكَ.

وجُمْلَةُ (إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً) مُسْتَأْنَفَةٌ، والتَّأْكِيدُ بِـ (إنَّ) ولامِ الِابْتِداءِ؛ لِأنَّ مَن لَمْ يَهْتَدِ بِذَلِكَ إلى الوَحْدانِيَّةِ يُنْكِرُونَ أنَّ القَوْمَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ قَدْ عَلِمُوا دَلالَتَهُ عَلى الوَحْدانِيَّةِ، أيْ يُنْكِرُونَ صَلاحِيَةَ ذَلِكَ لِلِاسْتِدْلالِ.

والإتْيانُ بِاسْمِ الإشارَةِ دُونَ الضَّمِيرِ؛ لِيَكُونَ مَحَلُّ الآيَةِ جَمِيعَ المَذْكُوراتِ مِن إنْزالِ المَطَرِ، وإحْياءِ الأرْضِ بِهِ، ومَوْتِها مِن قَبْلِ الإحْياءِ.

والكَلامُ في (قَوْمٍ يَسْمَعُونَ) كالكَلامِ في قَوْلِهِ آنِفًا (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) .

والسَّمْعُ: هُنا مُسْتَعْمَلٌ في لازِمِ مَعْناهُ عَلى سَبِيلِ الكِنايَةِ، وهو سَماعُ التَّدَبُّرِ والإنْصافِ لِما تَدَبَّرُوا بِهِ، وهو تَعْرِيضٌ بِالمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يَفْهَمُوا دَلالَةَ ذَلِكَ عَلى الوَحْدانِيَّةِ، ولِذَلِكَ اخْتِيرَ وصْفُ السَّمْعِ هُنا المُرادُ مِنهُ الإنْصافُ والِامْتِثالُ؛ لِأنَّ دَلالَةَ المَطَرِ وحَياةَ الأرْضِ بِهِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ، ودَلالَةُ ذَلِكَ عَلى وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى ظاهِرَةٌ لا يَصُدُّ عَنْها إلّا المُكابَرَةُ.