صفحة ١٩٩

﴿وإنَّ لَكم في الأنْعامِ لَعِبْرَةً نَسْقِيكم مِمّا في بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ لَبَنًا خالِصًا سائِغًا لِلشّارِبِينَ﴾ هَذِهِ حُجَّةٌ أُخْرى، ومِنَّةٌ مِنَ المِنَنِ النّاشِئَةِ عَنْ مَنافِعِ خَلْقِ الأنْعامِ، أُدْمِجَ في مِنَّتِها العِبْرَةُ بِما في دَلالَتِها عَلى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ تَعالى ﴿والأنْعامَ خَلَقَها لَكم فِيها دِفْءٌ﴾ [النحل: ٥] إلى قَوْلِهِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ.

ومُناسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ هُنا أنَّ بِألْبانِ الأنْعامِ حَياةَ الإنْسانِ، كَما تَحْيا الأرْضُ بِماءِ السَّماءِ، وأنَّ لِآثارِ ماءِ السَّماءِ أثَرًا في تَكْوِينِ ألْبانِ الحَيَوانِ بِالمَرْعى.

واخْتَصَّتْ هَذِهِ العِبْرَةُ بِما تُنَبِّهُ إلَيْهِ مِن بَدِيعِ الصُّنْعِ والحِكْمَةِ في خَلْقِ الألْبانِ بِقَوْلِهِ ﴿مِمّا في بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ لَبَنًا خالِصًا سائِغًا﴾، ثُمَّ بِالتَّذْكِيرِ بِما في ذَلِكَ مِنَ النِّعْمَةِ عَلى النّاسِ إدْماجًا لِلْعِبْرَةِ بِالمِنَّةِ.

فَجُمْلَةُ (وإنَّ لَكم في الأنْعامِ لَعِبْرَةً) مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ [النحل: ٦٥]، أيْ كَما كانَ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ عِبْرَةٌ في إنْزالِ الماءِ مِنَ السَّماءِ لَكم في الأنْعامِ عِبْرَةٌ أيْضًا، إذْ قَدْ كانَ المُخاطَبُونَ، وهُمُ المُؤْمِنُونَ القَوْمَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ.

وضَمِيرُ الخِطابِ التِفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ. وتَوْكِيدُها بِـ (إنَّ) ولامِ الِابْتِداءِ كَتَأْكِيدِ الجُمْلَةِ قَبْلَها.

والأنْعامُ: اسْمُ جَمْعٍ لِكُلِّ جَماعَةٍ مِن أحَدِ أصْنافِ الإبِلِ والبَقَرِ والضَّأْنِ والمَعْزِ.

والعِبْرَةُ: ما يُتَّعَظُ بِهِ ويُعْتَبَرُ، وقَدْ تَقَدَّمَ في نِهايَةِ سُورَةِ يُوسُفَ، وجُمْلَةُ ﴿نُسْقِيكم مِمّا في بُطُونِهِ﴾ واقِعَةٌ مَوْقِعَ البَيانِ لِجُمْلَةِ ﴿وإنَّ لَكم في الأنْعامِ لَعِبْرَةً﴾ .

والبُطُونُ: جَمْعُ بَطْنٍ، وهو اسْمٌ لِلْجَوْفِ الحاوِيَةِ لِلْجِهازِ الهَضْمِيِّ كُلِّهِ؛ مِن مَعِدَةٍ وكَبِدٍ وأمْعاءَ.

صفحة ٢٠٠

و(مِن) في قَوْلِهِ تَعالى ﴿مِمّا في بُطُونِهِ﴾ ابْتِدائِيَّةٌ؛ لِأنَّ اللَّبَنَ يُفْرَزُ عَنِ العَلَفِ الَّذِي في البُطُونِ، وماصَدَقُ ما في بُطُونِهِ العَلَفُ، ويَجُوزُ جَعْلُها تَبْعِيضِيَّةً، ويَكُونُ ماصَدَقُ ما في بُطُونِهِ هو اللَّبَنُ اعْتِدادًا بِحالَةِ مُرُورِهِ في داخِلِ الأجْهِزَةِ الهَضْمِيَّةِ قَبْلَ انْحِدارِهِ في الضَّرْعِ.

و(مِن) في قَوْلِهِ تَعالى ﴿مِن بَيْنِ فَرْثٍ﴾ زائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ التَّوَسُّطِ، أيْ يُفْرَزُ في حالَةٍ بَيْنَ حالَتَيِ الفَرْثِ والدَّمِ.

ووَقَعَ البَيانُ بِـ نَسْقِيكم دُونَ أنْ يُقالَ: تَشْرَبُونَ أوْ نَحْوُهُ؛ إدْماجًا لِلْمِنَّةِ مَعَ العِبْرَةِ.

ووَجْهُ العِبْرَةِ في ذَلِكَ أنَّ ما تَحْتَوِيهِ بُطُونُ الأنْعامِ مِنَ العَلَفِ والمَرْعى يَنْقَلِبُ بِالهَضْمِ في المَعِدَةِ، ثُمَّ الكَبِدِ، ثُمَّ غُدَدِ الضَّرْعِ، مائِعًا يُسْقى، وهو مُفْرَزٌ مِن بَيْنِ إفْرازِ فَرْثٍ ودَمٍ.

والفَرْثُ: الفَضَلاتُ الَّتِي تَرَكَها الهَضْمُ المُعْدِي فَتَنْحَدِرُ إلى الأمْعاءِ فَتَصِيرُ فَرْثًا، والدَّمُ: إفْرازٌ تَفْرِزُهُ الكَبِدُ مِنَ الغِذاءِ المُنْحَدِرِ إلَيْها، ويَصْعَدُ إلى القَلْبِ فَتَدْفَعُهُ حَرَكَةُ القَلْبِ المِيكانِيئِيَّةِ إلى الشَّرايِينِ والعُرُوقِ، ويَبْقى يَدُورُ كَذَلِكَ بِواسِطَةِ القَلْبِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ﴾ [المائدة: ٣] في سُورَةِ العُقُودِ.

ومَعْنى كَونِ اللَّبَنِ مِن بَيْنِ الفَرْثِ والدَّمِ أنَّهُ إفْرازٌ حاصِلٌ في حِينِ إفْرازِ الدَّمِ وإفْرازِ الفَرْثِ، وعَلاقَتُهُ بِالفَرْثِ أنَّ الدَّمَ الَّذِي يَنْحَدِرُ في عُرُوقِ الضَّرْعِ يَمُرُّ بِجَوازِ الفَضَلاتِ البَوْلِيَّةِ والثُّفْلِيَّةِ، فَتُفْرِزُهُ غُدَدُ الضَّرْعِ لَبَنًا كَما تُفْرِزُهُ غُدَدُ الكُلْيَتَيْنِ بَوْلًا بِدُونِ مُعالَجَةٍ زائِدَةٍ، وكَما تُفْرِزُ تَكامِيشُ الأمْعاءِ ثُفْلًا بِدُونِ مُعالَجَةٍ بِخِلافِ إفْرازِ غُدَدِ المَثانَةِ لِلْمَنِيِّ لِتَوَقُّفِهِ عَلى مُعالَجَةٍ يَنْحَدِرُ بِها الدَّمُ إلَيْها.

ولَيْسَ المُرادُ أنَّ اللَّبَنَ يَتَمَيَّعُ مِن بَيْنِ طَبَقَتَيْ فَرْثٍ ودَمٍ، وإنَّما الَّذِي أوْهَمَ ذَلِكَ مَن تَوَهَّمَهُ حَمْلُهُ (بَيْنَ) عَلى حَقِيقَتِها مِن ظَرْفِ المَكانِ، وإنَّما هي

صفحة ٢٠١

تُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا في المَكانِ المَجازِيِّ فَيُرادُ بِها الوَسَطُ بَيْنَ مَرْتَبَتَيْنِ كَقَوْلِهِمُ: الشَّجاعَةُ صِفَةٌ بَيْنَ التَّهَوُّرِ والجُبْنِ، فَمِن بَلاغَةِ القُرْآنِ هَذا التَّعْبِيرُ القَرِيبُ لِلْأفْهامِ لِكُلِّ طَبَقَةٍ مِنَ النّاسِ بِحَسَبِ مَبالِغِ عِلْمِهِمْ، مَعَ كَوْنِهِ مُوافِقًا لِلْحَقِيقَةِ.

والمَعْنى: إفْرازٌ لَيْسَ هو بِدَمٍ؛ لِأنَّهُ ألْيَنُ مِنَ الدَّمِ، ولِأنَّهُ غَيْرُ باقٍ في عُرُوقِ الضَّرْعِ كَبَقاءِ الدَّمِ في العُرُوقِ، فَهو شَبِيهٌ بِالفَضَلاتِ في لُزُومِ إفْرازِهِ، ولَيْسَ هو بِالفَضْلَةِ؛ لِأنَّهُ إفْرازٌ طاهِرٌ نافِعٌ مُغَذٍّ، ولَيْسَ قَذَرًا ضارًّا غَيْرَ صالِحٍ لِلتَّغْذِيَةِ كالبَوْلِ والثُّفْلِ.

ومَوْقِعُ (مِن بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ) مَوْقِعُ الصِّفَةِ لِـ (لَبَنًا)، قُدِّمَتْ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمامِ بِها؛ لِأنَّها مَوْضِعُ العِبْرَةِ، فَكانَ لَها مَزِيدُ اهْتِمامٍ، وقَدْ صارَتْ بِالتَّقْدِيمِ حالًا.

ولَمّا كانَ اللَّبَنُ يَحْصُلُ في الضَّرْعِ لا في البَطْنِ جُعِلَ مَفْعُولًا لِـ (نَسْقِيكم)، وجُعِلَ مِمّا في بُطُونِهِ تَبْيِينًا لِمَصْدَرِهِ لا لِمَوْرِدِهِ، فَلَيْسَ اللَّبَنُ مِمّا في البُطُونِ، ولِذَلِكَ كانَ مِمّا في بُطُونِهِ مُتَقَدِّمًا في الذِّكْرِ؛ لِيَظْهَرَ أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ (نَسْقِيكم) ولَيْسَ وصْفًا لِلَّبَنِ.

وقَدْ أحاطَ بِالأوْصافِ الَّتِي ذَكَرْناها لِلَّبَنِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿خالِصًا سائِغًا لِلشّارِبِينَ﴾، فَخُلُوصُهُ نَزاهَتُهُ مِمّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ البَوْلُ والثُّفْلُ، وسَوْغُهُ لِلشّارِبِينَ سَلامَتُهُ مِمّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الدَّمُ مِنَ المَضارِّ لِمَن شَرِبَهُ، فَلِذَلِكَ لا يُسِيغُهُ الشّارِبُ ويَتَجَهَّمُهُ.

وهَذا الوَصْفُ العَجِيبُ مِن مُعْجِزاتِ القُرْآنِ العِلْمِيَّةِ، إذْ هو وصْفٌ لَمْ يَكُنْ لِأحَدٍ مِنَ العَرَبِ يَوْمَئِذٍ أنْ يَعْرِفَ دَقائِقَ تَكْوِينِهِ، ولا أنْ يَأْتِيَ عَلى وصْفِهِ بِما لَوْ وصَفَ بِهِ العالِمُ الطَّبِيعِيُّ لَمْ يَصِفْهُ بِأوْجَزَ مِن هَذا وأجْمَعِ.

وإفْرادُ ضَمِيرِ الأنْعامِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿مِمّا في بُطُونِهِ﴾ مُراعاةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُفْرَدًا؛ لِأنَّ اسْمَ الجَمْعِ لَفْظٌ مُفْرَدٌ، إذْ لَيْسَ مِن صِيَغِ الجُمُوعِ، فَقَدْ يُراعى

صفحة ٢٠٢

اللَّفْظُ فَيَأْتِي ضَمِيرُهُ مُفْرَدًا، وقَدْ يُراعى مَعْناهُ فَيُعامَلُ مُعامَلَةَ الجُمُوعِ، كَما في آيَةِ سُورَةِ المُؤْمِنِينَ ﴿نُسْقِيكم مِمّا في بُطُونِها﴾ [المؤمنون: ٢١] .

والخالِصُ: المُجَرَّدُ مِمّا يُكَدِّرُ صَفاءَهُ، فَهو الصّافِي، والسّائِغُ: السَّهْلُ المُرُورِ في الحَلْقِ.

وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ ويَعْقُوبَ (نَسْقِيكم) بِفَتْحِ النُّونِ مُضارِعُ سَقى، وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وخَلَفٌ بِضَمِّ النُّونِ عَلى أنَّهُ مُضارِعُ أسْقى، وهُما لُغَتانِ، وقَرَأهُ أبُو جَعْفَرٍ بِمُثَنّاةٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ عِوَضًا عَنِ النُّونِ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ لِلْأنْعامِ.