Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
صفحة ٢٣٤
﴿ألَمْ يَرَوْا إلى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ في جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إلّا اللَّهُ إنَّ في ذَلِكَ لِآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ مَوْقِعُ هَذِهِ الجُمْلَةِ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ والتَّدْلِيلِ عَلى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وبَدِيعِ صُنْعِهِ، وعَلى لُطْفِهِ بِالمَخْلُوقاتِ، فَإنَّهُ لَمّا ذَكَرَ مَوْهِبَةَ العَقْلِ والحَواسِّ الَّتِي بِها تَحْصِيلُ المَنافِعِ، ودَفْعُ الأضْرارِ نَبَّهَ النّاسَ إلى لُطْفٍ يُشاهِدُونَهُ أجْلى مُشاهَدَةً لِأضْعَفِ الحَيَوانِ، بِأنَّ تَسْخِيرَ الجَوِّ لِلطَّيْرِ وخَلْقِها صالِحَةً لِأنْ تُرَفْرِفَ فِيهِ بِدُونِ تَعْلِيمٍ هو لُطْفٌ بِها اقْتَضاهُ ضَعْفُ بِنْياتِها؛ إذْ كانَتْ عادِمَةً وسائِلَ الدِّفاعِ عَنْ حَياتِها، فَجَعَلَ اللَّهُ لَها سُرْعَةَ الِانْتِقالِ مَعَ الِابْتِعادِ عَنْ تَناوُلِ ما يَعْدُو عَلَيْها مِنَ البَشَرِ والدَّوابِّ.فَلِأجْلِ هَذا المَوْقِعِ لَمْ تُعْطَفِ الجُمْلَةُ عَلى الَّتِي قَبْلَها؛ لِأنَّها لَيْسَ في مَضْمُونِها نِعْمَةٌ عَلى البَشَرِ، ولَكِنَّها آيَةٌ عَلى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وعِلْمِهِ، بِخِلافِ نَظِيرَتِها في سُورَةِ المُلْكِ ﴿أوَلَمْ يَرَوْا إلى الطَّيْرِ فَوْقَهم صافّاتٍ﴾ [الملك: ١٩] فَإنَّها عُطِفَتْ عَلى آياتٍ دالَّةٍ عَلى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى مِن قَوْلِهِ ﴿ولَقَدْ زَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ﴾ [الملك: ٥] ثُمَّ قالَ ﴿ولِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وبِئْسَ المَصِيرُ﴾ [الملك: ٦] ثُمَّ قالَ ﴿أأمِنتُمْ مَن في السَّماءِ أنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ﴾ [الملك: ١٦] ثُمَّ قالَ ﴿أوَلَمْ يَرَوْا إلى الطَّيْرِ﴾ [الملك: ١٩] الآيَةَ، ولِذَلِكَ المَعْنى عُقِّبَتْ هَذِهِ وحْدَها بِجُمْلَةِ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ .
والتَّسْخِيرُ: التَّذْلِيلُ لِلْعَمَلِ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿والشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأمْرِهِ﴾ [الأعراف: ٥٤] في سُورَةِ الأعْرافِ.
والجَوُّ: الفَضاءُ الَّذِي بَيْنَ الأرْضِ والسَّماءِ، وإضافَتُهُ إلى السَّماءِ؛ لِأنَّهُ يَبْدُو مُتَّصِلًا بِالقُبَّةِ الزَّرْقاءِ في ما يَخالُ النّاظِرُ.
والإمْساكُ: الشَّدُّ عَنِ التَّفَلُّتِ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
صفحة ٢٣٥
والمُرادُ هُنا: ما يُمْسِكُهُنَّ عَنِ السُّقُوطِ إلى الأرْضِ مِن دُونِ إرادَتِها، وإمْساكُ اللَّهِ إيّاها خَلْقُهُ الأجْنِحَةَ لَها والأذْنابَ، وجَعْلُهُ الأجْنِحَةَ والأذْنابَ قابِلَةً لِلْبَسْطِ، وخَلْقُ عِظامِها أخَفَّ مِن عِظامِ الدَّوابِّ بِحَيْثُ إذا بَسَطَتْ أجْنِحَتَها وأذْنابَها ونَهَضَتْ بِأعْصابِها خَفَّتْ خِفَّةً شَدِيدَةً؛ فَسَبَحَتْ في الهَواءِ فَلا يَصْلُحُ ثِقَلُها لِأنْ يَخْرِقَ ما تَحْتَها مِنَ الهَواءِ، إلّا إذا قَبَضَتْ مِن أجْنِحَتِها وأذْنابِها وقَوَّسَتْ أعْصابَ أصْلابِها عِنْدَ إرادَتِها النُّزُولَ إلى الأرْضِ أوِ الِانْخِفاضَ في الهَواءِ، فَهي تَحُومُ في الهَواءِ كَيْفَ شاءَتْ ثُمَّ تَقَعُ مَتى شاءَتْ أوْ عَيِيَتْ، فَلَوْلا أنَّ اللَّهَ خَلَقَها عَلى تِلْكَ الحالَةِ لَما اسْتَمْسَكَتْ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ إمْساكًا عَلى وجْهِ الِاسْتِعارَةِ، وهو لُطْفٌ بِها.والرُّؤْيَةُ: بَصَرِيَّةٌ، وفِعْلُها يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ، فَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ (إلى) لِتَضْمِينِ الفِعْلِ مَعْنى (يَنْظُرُوا) .
و(مُسَخَّراتٍ) حالٌ، وجُمْلَةُ ﴿ما يُمْسِكُهُنَّ إلّا اللَّهُ﴾ حالٌ ثانِيَةٌ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿ألَمْ يَرَوْا﴾ بِياءِ الغائِبِ عَلى طَرِيقَةِ الِالتِفاتِ عَنْ خِطابِ المُشْرِكِينَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿واللَّهُ أخْرَجَكم مِن بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ﴾ [النحل: ٧٨] .
وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ ويَعْقُوبُ وخَلَفٌ (ألَمْ تَرَوْا) بِتاءِ الخِطابِ تَبَعًا لِلْخِطابِ المَذْكُورِ.
والِاسْتِفْهامُ إنْكارِيٌّ، مَعْناهُ: إنْكارُ انْتِفاءِ رُؤْيَتِهِمُ الطَّيْرَ مُسَخَّراتٍ في الجَوِّ بِتَنْزِيلِ رُؤْيَتِهِمْ إيّاها مَنزِلَةَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ؛ لِانْعِدامِ فائِدَةِ الرُّؤْيَةِ مِن إدْراكِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ المَرْئِيُّ مِنِ انْفِرادِ اللَّهِ تَعالى بِالإلَهِيَّةِ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا؛ لِأنَّ الإنْكارَ عَلى المُشْرِكِينَ عَدَمَ الِانْتِفاعِ بِما يَرَوْنَهُ مِنَ الدَّلائِلِ يُثِيرُ سُؤالًا في نَفْسِ السّامِعِ: أكانَ عَدَمُ الِانْتِفاعِ بِدَلالَةِ رُؤْيَةِ الطَّيْرِ عامًّا في البَشَرِ، فَيُجابُ بِأنَّ المُؤْمِنِينَ يَسْتَدِلُّونَ مِن ذَلِكَ بِدَلالاتٍ كَثِيرَةٍ.
صفحة ٢٣٦
والتَّأْكِيدُ بِـ (إنَّ) مُناسِبٌ لِاسْتِفْهامِ الإنْكارِ عَلى الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا تِلْكَ الآياتِ، فَأكَّدَتِ الجُمْلَةُ الدّالَّةُ عَلى انْتِفاعِ المُؤْمِنِينَ بِتِلْكَ الدَّلالَةِ؛ لِأنَّ الكَلامَ مُوَجَّهٌ لِلَّذِينِ لَمْ يَهْتَدُوا بِتِلْكَ الدَّلالَةِ، فَهم بِمَنزِلَةِ مَن يُنْكِرُ أنَّ في ذَلِكَ دَلالَةً لِلْمُؤْمِنِينَ؛ لِأنَّ المُشْرِكِينَ يَنْظُرُونَ بِمِرْآةِ أنْفُسِهِمْ.وبَيْنَ الإنْكارِ عَلَيْهِمْ عَدَمَ رُؤْيَتِهِمْ تَسْخِيرَ الطَّيْرِ، وبَيْنَ إثْباتِ رُؤْيَةِ المُؤْمِنِينَ مُحَسِّنُ الطِّباقِ. وبَيْنَ نَفْيِ عَدَمِ رُؤْيَةِ المُشْرِكِينَ، وتَأْكِيدِ إثْباتِ رُؤْيَةِ المُؤْمِنِينَ لِذَلِكَ مُحَسِّنُ الطِّباقِ أيْضًا، وبَيْنَ ضَمِيرِ يَرَوْا وقَوْلِهِ قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ التَّضادُّ أيْضًا، فَحَصَلَ الطِّباقُ ثَلاثَ مَرّاتٍ، وهَذا أبْلَغُ طِباقٍ جاءَ مَحْوِيًّا لِلْبَيانِ.
وجَمْعُ الآياتِ؛ لِأنَّ في الطَّيْرِ دَلائِلَ مُخْتَلِفَةً: مِن خِلْقَةِ الهَواءِ، وخِلْقَةِ أجْسادِ الطَّيْرِ مُناسِبَةً لِلطَّيَرانِ في الهَواءِ. وخَلْقِ الإلْهامَ لِلطَّيْرِ بِأنْ يَسْبَحَ في الجَوِّ، وبِأنْ لا يَسْقُطَ إلى الأرْضِ إلّا بِإرادَتِهِ، وخُصَّتِ الآياتُ بِالمُؤْمِنِينَ؛ لِأنَّهم بِخُلُقِ الإيمانِ قَدْ ألِفُوا إعْمالَ تَفْكِيرِهِمْ في الِاسْتِدْلالِ عَلى حَقائِقِ الأشْياءِ، بِخِلافِ أهْلِ الكُفْرِ فَإنَّ خُلُقَ الكُفْرِ مَطْبُوعٌ عَلى النُّفْرَةِ مِنَ الِاقْتِداءِ بِالنّاصِحِينَ وعَلى مُكابَرَةِ الحَقِّ.