صفحة ٥٣

﴿وإذا أرَدْنا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْها القَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا﴾ هَذا تَفْصِيلٌ لِلْحُكْمِ المُتَقَدِّمِ قُصِدَ بِهِ تَهْدِيدُ قادَةِ المُشْرِكِينَ، وتَحْمِيلُهم تَبِعَةَ ضَلالِ الَّذِينَ أضَلُّوهم، وهو تَفْرِيعٌ لِتَبْيِينِ أسْبابِ حُلُولِ التَّعْذِيبِ بَعْدَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ أُدْمِجَ فِيهِ تَهْدِيدُ المُضِلِّينَ، فَكانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يُعْطَفَ بِالفاءِ عَلى قَوْلِهِ ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] ولَكِنَّهُ عَطْفٌ بِالواوِ؛ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ مَقْصُودٌ لِذاتِهِ بِاعْتِبارِ ما يَتَضَمَّنُهُ مِنَ التَّحْذِيرِ مِنَ الوُقُوعِ في مِثْلِ الحالَةِ المَوْصُوفَةِ، ويَظْهَرُ مَعْنى التَّفْرِيعِ مِن طَبِيعَةِ الكَلامِ، فالعَطْفُ بِالواوِ هُنا تَخْرِيجٌ عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ في الفَصْلِ والوَصْلِ.

فَهَذِهِ الآيَةُ تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِن أهْلِ مَكَّةَ، وتَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ.

والمَعْنى أنَّ بَعْثَةَ الرَّسُولِ تَتَضَمَّنُ أمْرًا بِشَرْعٍ، وأنَّ سَبَبَ إهْلاكِ المُرْسَلِ إلَيْهِمْ بَعْدَ أنْ يُبْعَثَ إلَيْهِمُ الرَّسُولُ هو عَدَمُ امْتِثالِهِمْ لِما يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلى لِسانِ ذَلِكَ الرَّسُولِ.

ومَعْنى إرادَةِ اللَّهِ إهْلاكَ قَرْيَةٍ التَّعَلُّقُ التَّنْجِيزِيُّ لِإرادَتِهِ، وتِلْكَ الإرادَةُ تَتَوَجَّهُ إلى المُرادِ عِنْدَ حُصُولِ أسْبابِهِ وهي المُشارُ إلَيْها بِقَوْلِهِ أمَرْنا مُتْرَفِيها إلى آخِرِهِ.

ومُتَعَلِّقُ (أمَرْنا) مَحْذُوفٌ، أيْ أمَرْناهم بِما نَأْمُرُهم بِهِ، أيْ بَعَثْنا إلَيْهِمُ الرَّسُولَ، وأمَرْناهم بِما نَأْمُرُهم عَلى لِسانِ رَسُولِهِمْ فَعَصَوُا الرَّسُولَ، وفَسَقُوا في قَرْيَتِهِمْ.

واعْلَمْ أنَّ تَصْدِيرَ هَذِهِ الجُمْلَةِ بِ (إذا) أوْجَبَ اسْتِغْلاقَ المَعْنى في الرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَةِ شَرْطِ (إذا) وجُمْلَةِ جَوابِهِ، لِأنَّ شَأْنَ (إذا) أنْ تَكُونَ ظَرْفًا لِلْمُسْتَقْبَلِ، وتَتَضَمَّنُ مَعْنى الشَّرْطِ، أيِ الرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَتَيْها، فاقْتَضى ظاهِرُ مَوْقِعِ (إذا)

صفحة ٥٤

أنَّ قَوْلَهُ أمَرْنا مُتْرَفِيها هو جَوابُ (إذا) فَيَقْتَضِي أنَّ إرادَةَ اللَّهِ إهْلاكَها سابِقَةٌ عَلى حُصُولِ أمْرِ المُتْرَفِينَ سَبْقَ الشَّرْطِ لِجَوابِهِ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أنَّ إرادَةَ اللَّهِ تَتَعَلَّقُ بِإهْلاكِ القَرْيَةِ ابْتِداءً فَيَأْمُرُ اللَّهُ مُتْرَفِي أهْلِ القَرْيَةِ فَيَفْسُقُوا فِيها؛ فَيَحِقَّ عَلَيْها القَوْلُ الَّذِي هو مَظْهَرُ إرادَةِ اللَّهِ إهْلاكَهم، مَعَ أنَّ مَجْرى العَقْلِ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ فُسُوقُ أهْلِ القَرْيَةِ، وكُفْرُهم هو سَبَبَ وُقُوعِ إرادَةِ اللَّهِ إهْلاكَهم، وأنَّ اللَّهَ لا تَتَعَلَّقُ إرادَتُهُ بِإهْلاكِ قَوْمٍ إلّا بَعْدَ أنْ يَصْدُرَ مِنهم ما تَوَعَّدَهم عَلَيْهِ لا العَكْسُ، ولَيْسَ مِن شَأْنِ اللَّهِ أنْ يُرِيدَ إهْلاكَهم قَبْلَ أنْ يَأْتُوا بِما يُسَبِّبُهُ، ولا مِنِ الحِكْمَةِ أنْ يَسُوقَهم إلى ما يُفْضِي إلى مُؤاخَذَتِهِمْ؛ لِيُحَقِّقَ سَبَبًا لِإهْلاكِهِمْ.

وقَرِينَةُ السِّياقِ واضِحَةٌ في هَذا، فَبِنا أنْ نَجْعَلَ الواوَ عاطِفَةً فِعْلَ أمَرْنا مُتْرَفِيها عَلى نَبْعَثَ رَسُولًا فَإنَّ الأفْعالَ يُعْطَفُ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ سَواءٌ أتَحَدَّتْ في اللَّوازِمِ أمِ اخْتَلَفَتْ، فَيَكُونُ أصْلُ نَظْمِ الكَلامِ هَكَذا: ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥]، ونَأْمُرَ مُتْرَفِي قَرْيَةٍ بِما نَأْمُرُهم بِهِ عَلى لِسانِ الرَّسُولِ فَيَفْسُقُوا عَنْ أمْرِنا؛ فَيَحِقَّ عَلَيْهِمْ الوَعِيدُ فَنُهْلِكُهم إذا أرَدْنا إهْلاكَهم.

فَكانَ إذا أرَدْنا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً شَرِيطَةً لِحُصُولِ الإهْلاكِ، أيْ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ ولا مُكْرِهَ لَهُ، كَما دَلَّتْ عَلَيْهِ آياتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ ﴿أوْ يَكْبِتَهم فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ﴾ [آل عمران: ١٢٧] ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمُ أوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٢٨] وقَوْلِهِ ﴿أنْ لَوْ نَشاءُ أصَبْناهم بِذُنُوبِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٠٠] وقَوْلِهِ ﴿وإذا شِئْنا بَدَّلْنا أمْثالَهم تَبْدِيلًا﴾ [الإنسان: ٢٨] وقَوْلِهِ ﴿عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَن نُرِيدُ﴾ [الإسراء: ١٨]، فَذَكَرَ شَرِيطَةَ المَشِيئَةِ مَرَّتَيْنِ.

وإنَّما عَدَلَ عَنْ نَظْمِ الكَلامِ بِهَذا الأُسْلُوبِ إلى الأُسْلُوبِ الَّذِي جاءَتْ بِهِ الآيَةُ؛ لِإدْماجِ التَّعْرِيضِ بِتَهْدِيدِ أهْلِ مَكَّةَ بِأنَّهم مُعَرَّضُونَ لِمِثْلِ هَذا مِمّا حَلَّ بِأهْلِ القُرى الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَ اللَّهِ.

ولِلْمُفَسِّرِينَ طَرائِقُ كَثِيرَةٌ تَزِيدُ عَلى ثَمانٍ لِتَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ مُتَعَسِّفَةٌ أوْ مَدْخُولَةٌ، وهي مُتَفاوِتَةٌ، وأقْرَبُها قَوْلُ مَن جَعَلَ جُمْلَةَ أمَرْنا مُتْرَفِيها إلَخْ صِفَةً لِ قَرْيَةً وجَعَلَ جَوابَ (إذا) مَحْذُوفًا.

صفحة ٥٥

والمُتْرَف: اسْمُ مَفْعُولٍ مِن (أتْرَفَهُ) إذا أعْطاهُ التُّرْفَةَ بِضَمِّ التّاءِ وسُكُونِ الرّاءِ أيِ النِّعْمَةَ، والمُتْرَفُونَ هم أهْلُ النِّعْمَةِ، وسَعَةِ العَيْشِ، وهم مُعْظَمُ أهْلِ الشِّرْكِ بِمَكَّةَ، وكانَ مُعْظَمُ المُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ ضُعَفاءَ قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿وذَرْنِي والمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ومَهِّلْهم قَلِيلًا﴾ [المزمل: ١١] .

وتَعْلِيقُ الأمْرِ بِخُصُوصِ المُتْرَفِينَ مَعَ أنَّ الرُّسُلَ يُخاطِبُونَ جَمِيعَ النّاسِ؛ لِأنَّ عِصْيانَهُمُ الأمْرَ المُوَجَّهَ إلَيْهِمْ هو سَبَبُ فِسْقِهِمْ وفِسْقِ بَقِيَّةِ قَوْمِهِ إذْ هم قادَةُ العامَّةِ، وزُعَماءُ الكُفْرِ، فالخِطابُ في الأكْثَرِ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِمْ، فَإذا فَسَقُوا عَنِ الأمْرِ اتَّبَعَهُمُ الدَّهْماءُ فَعَمَّ الفِسْقُ، أوْ غَلَبَ عَلى القَرْيَةِ؛ فاسْتَحَقَّتِ الهَلاكَ.

وقَرَأ الجُمْهُورُ أمَرْنا بِهَمْزَةٍ واحِدَةٍ، وتَخْفِيفِ المِيمِ، وقَرَأ يَعْقُوبُ (آمَرْنا) بِالمَدِّ بِهَمْزَتَيْنِ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ، وهَمْزَةِ فاءِ الفِعْلِ، أيْ جَعَلْناهم آمِرِينَ، أيْ داعِينَ قَوْمَهم إلى الضَّلالَةِ، فَسَكَنَتِ الهَمْزَةُ الثّانِيَةُ فَصارَتْ ألِفًا تَخْفِيفًا، أوِ الألِفُ ألِفُ المُفاعَلَةِ، والمُفاعَلَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ في المُبالَغَةِ، مِثْلُ: عافاهُ اللَّهُ.

والفِسْقُ: الخُرُوجُ عَنْ المَقَرِّ وعَنِ الطَّرِيقِ، والمُرادُ بِهِ في اصْطِلاحِ القُرْآنِ الخُرُوجُ عَمّا أمَّرَ اللَّهُ بِهِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٦] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

والقَوْلُ هو ما يُبَلِّغُهُ اللَّهُ إلى النّاسِ مِن كَلامٍ بِواسِطَةِ الرُّسُلِ، وهو قَوْلُ الوَعِيدِ كَما قالَ ﴿فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إنّا لَذائِقُونَ﴾ [الصافات: ٣١] .

والتَّدْمِيرُ: هَدْمُ البِناءِ وإزالَةُ أثَرِهِ، وهو مُسْتَعارٌ هُنا لِلِاسْتِئْصالِ إذِ المَقْصُودُ إهْلاكُ أهْلِها، ولَوْ مَعَ بَقاءِ بِنائِهِمْ كَما في قَوْلِهِ واسْألِ القَرْيَةَ، وتَقَدَّمَ التَّدْمِيرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ودَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وقَوْمُهُ﴾ [الأعراف: ١٣٧] في الأعْرافِ، وتَأْكِيدُ دَمَّرْناها بِالمَصْدَرِ مَقْصُودٌ مِنهُ الدَّلالَةُ عَلى عِظَمِ التَّدْمِيرِ لا نَفْيُ احْتِمالِ المَجازِ.