﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنى إنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلًا﴾ عَطْفُ هَذا النَّهْيِ عَلى النَّهْيِ عَنْ وأْدِ البَناتِ إيماءٌ إلى أنَّهم كانُوا يَعُدُّونَ مِن أعْذارِهِمْ في وأْدِ البَناتِ الخَشْيَةَ مِنَ العارِ الَّذِي قَدْ يَلْحَقُ مِن جَرّاءِ إهْمالِ البَناتِ النّاشِئِ عَنِ الفَقْرِ الرّامِي بِهِنَّ في مَهاوِي العُهْرِ، ولِأنَّ في الزِّنى إضاعَةَ نَسَبِ النَّسْلِ بِحَيْثُ لا يُعْرَفُ لِلنَّسْلِ مَرْجِعٌ يَأْوِي إلَيْهِ، وهو يُشْبِهُ الوَأْدَ في الإضاعَةِ.

وجَرى الإضْمارُ فِيهِ بِصِيغَةِ الجَمْعِ كَما جَرى في قَوْلِهِ ﴿ولا تَقْتُلُوا أوْلادَكم خَشْيَةَ إمْلاقٍ﴾ [الإسراء: ٣١] لِمِثْلِ ما وجَّهَ بِهِ تَغْيِيرَ الأُسْلُوبِ هُنالِكَ فَإنَّ المَنهِيَّ عَنْهُ هُنا كانَ مِن غالِبِ أحْوالِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ.

صفحة ٩٠

وهَذِهِ الوَصِيَّةُ الثّامِنَةُ مِنَ الوَصايا الإلَهِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿وقَضى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] .

والقُرْبُ المَنهِيُّ عَنْهُ هو أقَلُّ المُلابَسَةِ، وهو كِنايَةٌ عَنْ شِدَّةِ النَّهْيِ عَنْ مُلابَسَةِ الزِّنا، وقَرِيبٌ مِن هَذا المَعْنى قَوْلُهم: ما كادَ يَفْعَلُ.

والزِّنى في اصْطِلاحِ الإسْلامِ مُجامَعَةُ الرَّجُلِ امْرَأةً غَيْرَ زَوْجَةٍ لَهُ، ولا مَمْلُوكَةٍ غَيْرِ ذاتِ الزَّوْجِ، وفي الجاهِلِيَّةِ الزِّنى: مُجامَعَةُ الرَّجُلِ امْرَأةً حُرَّةً غَيْرَ زَوْجٍ لَهُ، وأمّا مُجامَعَةُ الأمَةِ غَيْرِ المَمْلُوكَةِ لِلرَّجُلِ فَهو البِغاءُ.

وجُمْلَةُ ﴿إنَّهُ كانَ فاحِشَةً﴾ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ مُلابَسَتِهِ تَعْلِيلًا مُبالَغًا فِيهِ مِن جِهاتٍ بِوَصْفِهِ بِالفاحِشَةِ الدّالِّ عَلى فِعْلَةٍ بالِغَةٍ الحَدَّ الأقْصى في القُبْحِ، وبِتَأْكِيدِ ذَلِكَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ، وبِإقْحامِ فِعْلِ (كانَ) المُؤْذِنِ بِأنَّ خَبَرَهُ وصْفٌ راسِخٌ مُسْتَقِرٌّ، كَما تَقَدَّمَ فَيَقُولُهُ ﴿إنَّ المُبَذِّرِينَ كانُوا إخْوانَ الشَّياطِينِ﴾ [الإسراء: ٢٧] .

والمُرادُ: أنَّ ذَلِكَ وصْفٌ ثابِتٌ لَهُ في نَفْسِهِ، سَواءٌ عَلِمَهُ النّاسُ مِن قَبْلُ أمْ لَمْ يَعْلَمُوهُ إلّا بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ.

وأتْبَعَ ذَلِكَ بِفِعْلِ الذَّمِّ وهو ساءَ سَبِيلًا، والسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ، وهو مُسْتَعارٌ هُنا لِلْفِعْلِ الَّذِي يُلازِمُهُ المَرْءُ ويَكُونُ لَهُ دَأْبًا اسْتِعارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى اسْتِعارَةِ السَّيْرِ لِلْعَمَلِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿سَنُعِيدُها سِيرَتَها الأُولى﴾ [طه: ٢١]، فَبُنِيَ عَلى اسْتِعارَةِ السَّيْرِ لِلْعَمَلِ اسْتِعارَةُ السَّبِيلِ لَهُ بِعَلاقَةِ المُلازَمَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُها في قَوْلِهِ ﴿إنَّهُ كانَ فاحِشَةً ومَقْتًا وساءَ سَبِيلًا﴾ [النساء: ٢٢] في سُورَةِ النِّساءِ.

وعِنايَةُ الإسْلامِ بِتَحْرِيمِ الزِّنى؛ لِأنَّ فِيهِ إضاعَةَ النَّسَبِ وتَعْرِيضَ النَّسْلِ لِلْإهْمالِ إنْ كانَ الزِّنى بِغَيْرِ مُتَزَوِّجَةٍ، وهو خَلَلٌ عَظِيمٌ في المُجْتَمَعِ، ولِأنَّ فِيهِ إفْسادَ النِّساءِ عَلى أزْواجِهِنَّ، والأبْكارِ عَلى أوْلِيائِهِنَّ، ولِأنَّ فِيهِ تَعْرِيضَ المَرْأةِ إلى الإهْمالِ بِإعْراضِ النّاسِ عَنْ تَزَوُّجِها، وطَلاقِ زَوْجِها إيّاها، ولِما يَنْشَأُ عَنِ الغَيْرَةِ مِنَ الهَرْجِ والتَّقاتُلِ، قالَ امْرُؤُ القَيْسِ:

عَلَيَّ حِراصًا لَوْ يُسِرُّونَ مَقْتَلِي

صفحة ٩١

فالزِّنى مِئِنَّةٌ لِإضاعَةِ الأنْسابِ ومَظِنَّةٌ لِلتَّقاتُلِ والتَّهارُجِ فَكانَ جَدِيرًا بِتَغْلِيظِ التَّحْرِيمِ قَصْدًا وتَوَسُّلًا، ومَن تَأمَّلَ ونَظَرَ جَزَمَ بِما يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الزِّنى مِنَ المَفاسِدِ، ولَوْ كانَ المُتَأمِّلُ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ في الجاهِلِيَّةِ فَقُبْحُهُ ثابِتٌ لِذاتِهِ، ولَكِنَّ العُقَلاءَ مُتَفاوِتُونَ في إدْراكِهِ وفي مِقْدارِ إدْراكِهِ، فَلَمّا أيْقَظَهُمُ التَّحْرِيمُ لَمْ يَبْقَ لِلنّاسِ عُذْرٌ، وقَدْ زَعَمَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَدَنِيَّةٌ كَما تَقَدَّمَ في صَدْرِ السُّورَةِ، ولا وجْهَ لِذَلِكَ الزَّعْمِ، وقَدْ أشَرْنا إلى إبْطالِ ذَلِكَ في أوَّلِ السُّورَةِ.