﴿كُلُّ ذَلِكَ كانَ سَيِّئَةً عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾

تَذْيِيلٌ لِلْجُمَلِ المُتَقَدِّمَةِ ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقَضى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] بِاعْتِبارِ ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْذِيراتِ والنَّواهِي، فَكُلُّ جُمْلَةٍ فِيها أمْرٌّ هي مُقْتَضِيَةٌ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، وكُلُّ جُمْلَةٍ فِيها نَهْيٌ هي مُقْتَضِيَةٌ شَيْئًا مَنهِيًّا عَنْهُ، فَقَوْلُهُ ﴿ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] يَقْتَضِي عِبادَةً مَذْمُومَةً مَنهِيًّا عَنْها، وقَوْلُهُ ﴿وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ [الإسراء: ٢٣] يَقْتَضِي إساءَةً مَنهِيًّا عَنْها، وعَلى هَذا القِياسِ.

وقَرَأ الجُمْهُورُ سَيِّئَةً بِفَتْحِ الهَمْزَةِ بَعْدَ المُثَنّاةِ التَّحْتِيَّةِ وبَهاءِ تَأْنِيثٍ في آخِرِهِ، وهي ضِدُّ الحَسَنَةِ.

صفحة ١٠٥

فالَّذِي وُصِفَ بِالسَّيِّئَةِ وبِأنَّهُ مَكْرُوهٌ لا يَكُونُ إلّا مَنهِيًّا عَنْهُ أوْ مَأْمُورًا بِضِدِّهِ؛ إذْ لا يَكُونُ المَأْمُورُ بِهِ مَكْرُوهًا لِلْآمِرِ بِهِ، وبِهَذا يَظْهَرُ لِلسّامِعِ مُعادُ اسْمِ الإشارَةِ في قَوْلِهِ ﴿كُلُّ ذَلِكَ﴾ .

وإنَّما اعْتُبِرَ ما في المَذْكُوراتِ مِن مَعانِي النَّهْيِ؛ لِأنَّ الأهَمَّ هو الإقْلاعُ عَمّا يَقْتَضِيهِ جَمِيعُها مِنَ المَفاسِدِ بِالصَّراحَةِ أوْ بِالِالتِزامِ؛ لِأنَّ دَرْءَ المَفاسِدِ أهَمُّ مِن جَلْبِ المَصالِحِ في الِاعْتِبارِ، وإنْ كانا مُتَلازِمَيْنِ في مِثْلِ هَذا.

وقَوْلُهُ ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِ ﴿مَكْرُوهًا﴾ أيْ هو مَذْمُومٌ عِنْدَ اللَّهِ، وتَقْدِيمُ هَذا الظَّرْفِ عَلى مُتَعَلِّقِهِ؛ لِلِاهْتِمامِ بِالظَّرْفِ إذْ هو مُضافٌ لِاسْمِ الجَلالَةِ، فَزِيادَةُ ﴿عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ لِتَشْنِيعِ الحالَةِ، أيْ مَكْرُوهًا فِعْلُهُ مِن فاعِلِهِ، وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأنَّ فاعِلَهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ اللَّهِ.

وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ ﴿كانَ سَيِّئُهُ﴾ بِضَمِّ الهَمْزَةِ وبَهاءِ ضَمِيرٍ في آخِرِهِ، والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى ﴿كُلُّ ذَلِكَ﴾، و﴿كُلُّ ذَلِكَ﴾ هو نَفْسُ السَّيِّئِ فَإضافَةُ (سَيِّئٍ) إلى ضَمِيرِهِ إضافَةٌ بَيانِيَّةٌ تُفِيدُ قُوَّةَ صِفَةِ السَّيِّئِ حَتّى كَأنَّهُ شَيْئانِ يُضافُ أحَدُهُما إلى الآخَرِ، وهَذِهِ نُكْتَةُ الإضافَةِ البَيانِيَّةِ كُلَّما وقَعَتْ، أيْ كانَ ما نَهى عَنْهُ مِن ذَلِكَ مَكْرُوهًا عِنْدَ اللَّهِ.

ويَنْبَغِي أنْ يَكُونَ ﴿مَكْرُوهًا﴾ خَبَرًا ثانِيًا لِ (كانَ) لِأنَّهُ المُناسِبُ لِلْقِراءَتَيْنِ.