﴿نَحْنُ أعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إذْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ وإذْ هم نَجْوى إذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾

كانَ المُشْرِكُونَ يُحِيطُونَ بِالنَّبِيءِ ﷺ في المَسْجِدِ الحَرامِ إذا قَرَأ القُرْآنَ يَسْتَمِعُونَ لِما يَقُولُهُ؛ لِيَتَلَقَّفُوا ما في القُرْآنِ مِمّا يُنْكِرُونَهُ، مِثْلَ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وإثْباتِ البَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، فَيُعَجِّبُ بَعْضُهم بَعْضًا مِن ذَلِكَ، فَكانَ الإخْبارُ عَنْهم بِأنَّهم جُعِلَتْ في قُلُوبِهِمْ أكِنَّةٌ أنْ يَفْقَهُوهُ، وفي آذانِهِمْ وقْرٌ، وأنَّهم يُوَلُّونَ عَلى أدْبارِهِمْ نُفُورًا إذا ذُكِرَ اللَّهُ وحْدَهُ، ويُثِيرُ في نَفْسِ السّامِعِ سُؤالًا عَنْ سَبَبِ تَجَمُّعِهِمْ لِاسْتِماعِ قِراءَةِ النَّبِيءِ ﷺ، فَكانَتْ هَذِهِ الآيَةُ جَوابًا عَنْ ذَلِكَ السُّؤالِ، فالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا.

صفحة ١٢٠

وافْتِتاحُ الجُمْلَةِ بِضَمِيرِ الجَلالَةِ؛ لِإظْهارِ العِنايَةِ بِمَضْمُونِهِما، والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ عِلْمًا حَقًّا داعِيَ اسْتِماعِهِمْ، فَإنْ كَثُرَتِ الظُّنُونُ فِيهِ فَلا يَعْلَمُ أحَدٌ ذَلِكَ السَّبَبَ.

وأعْلَمُ اسْمُ تَفْضِيلٍ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنى قُوَّةِ العِلْمِ وتَفْصِيلِهِ، ولَيْسَ المُرادُ أنَّ اللَّهَ أشَدُّ عِلْمًا مِن غَيْرِهِ إذْ لا يَقْتَضِيهِ المَقامُ.

والباءُ في قَوْلِهِ ﴿بِما يَسْتَمِعُونَ﴾ لِتَعْدِيَةِ اسْمِ التَّفْضِيلِ إلى مُتَعَلِّقِهِ؛ لِأنَّهُ قاصِرٌ عَنِ التَّعْدِيَةِ إلى المَفْعُولِ، واسْمُ التَّفْضِيلِ المُشْتَقُّ مِنِ العِلْمِ ومِنَ الجَهْلِ يُعَدّى بِالباءِ وفي سِوى ذَيْنِكَ يُعَدّى بِاللّامِ، يُقالُ: هو أعْطى لِلدَّراهِمِ.

والباءُ في ﴿يَسْتَمِعُونَ بِهِ﴾ لِلْمُلابَسَةِ، والضَّمِيرُ المَجْرُورُ بِالباءِ عائِدٌ إلى (ما) المَوْصُولَةِ، أيْ نَحْنُ أعْلَمُ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُلابِسُهم حِينَ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ، وهي ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ في مَوْقِعِ الحالِ، والتَّقْدِيرُ: مُتَلَبِّسٌ بِهِ.

وبَيانُ إبْهامِ (ما) حاصِلٌ بِقَوْلِهِ ﴿إذْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ وإذْ هم نَجْوى﴾ الآيَةَ.

و(إذْ) ظَرْفٌ لِ ﴿يَسْتَمِعُونَ بِهِ﴾ .

والنَّجْوى: اسْمُ مَصْدَرِ المُناجاةِ، وهي المُحادَثَةُ سِرًّا، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿لا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِن نَجْواهُمْ﴾ [النساء: ١١٤] في سُورَةِ النِّساءِ.

وأخْبَرَ عَنْهم بِالمَصْدَرِ لِلْمُبالَغَةِ في كَثْرَةِ تَناجِيهِمْ عِنْدَ اسْتِماعِ القُرْآنِ تَشاغُلًا عَنْهُ.

﴿وإذْ هم نَجْوى﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿إذْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ﴾، أيْ نَحْنُ أعْلَمُ بِالَّذِي يَسْتَمِعُونَهُ، ونَحْنُ أعْلَمُ بِنَجْواهم.

و﴿إذْ يَقُولُ﴾ بَدَلٌ مِن ﴿إذْ هم نَجْوى﴾ بَدَلَ بَعْضٍ مِن كُلٍّ؛ لِأنَّ نَجْواهم غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ في هَذا القَوْلِ، وإنَّما خَصَّ هَذا القَوْلَ بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّهُ أشَدُّ غَرابَةً مِن بَقِيَّةِ آفاكِهِمْ لِلْبَوْنِ الواضِحِ بَيْنَ حالِ النَّبِيءِ ﷺ وبَيْنَ حالِ المَسْحُورِ.

صفحة ١٢١

ووَقَعَ إظْهارٌ في مَقامِ الإضْمارِ في ﴿إذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ﴾ دُونَ: إذْ يَقُولُونَ، لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ باعِثَ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ هو الظُّلْمُ، أيِ الشِّرْكُ فَإنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ، أيْ ولَوْلا شِرْكُهم لَما مَثَّلَ عاقِلٌ حالَةَ النَّبِيءِ الكامِلَةَ بِحالَةِ المَسْحُورِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ الظُّلْمُ أيْضًا الِاعْتِداءَ، أيِ الِاعْتِداءَ عَلى النَّبِيءِ ﷺ كَذِبًا.