﴿واذْكُرْ في الكِتابِ مُوسى إنَّهُ كانَ مُخْلَصًا وكانَ رَسُولًا نَبِيئًا﴾ ﴿ونادَيْناهُ مِن جانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وقَرَّبْناهُ نَجِيًّا﴾ ﴿ووَهَبْنا لَهُ مِن رَحْمَتِنا أخاهُ هارُونَ نَبِيئًا﴾

أفْضَتْ مُناسَبَةُ ذِكْرِ إبْراهِيمَ ويَعْقُوبَ إلى أنْ يُذْكَرَ مُوسى في هَذا المَوْضِعِ لِأنَّهُ أشْرَفُ نَبِيءٍ مِن ذُرِّيَّةِ إسْحاقَ ويَعْقُوبَ.والقَوْلُ في جُمْلَةِ واذْكُرْ وجُمْلَةِ إنَّهُ كانَ كالقَوْلِ في نَظِيرَيْهِما في ذِكْرِ إبْراهِيمَ عَدا أنَّ الجُمْلَةَ هُنا غَيْرُ مُعْتَرِضَةٍ بَلْ مُجَرَّدُ اسْتِئْنافٍ.

وقَرَأ الجُمْهُورُ (مُخْلِصًا) بِكَسْرِ اللّامِ مِن أخْلَصَ القاصِرِ إذا كانَ الإخْلاصُ صِفَتَهُ. والإخْلاصُ في أمْرٍ ما: الإتْيانُ بِهِ غَيْرَ مَشُوبٍ بِتَقْصِيرٍ ولا تَفْرِيطٍ ولا هَوادَةٍ، مُشْتَقٌّ مِنَ الخُلُوصِ، وهو التَّمَحُّضُ وعَدَمُ الخَلْطِ. والمُرادُ هُنا: الإخْلاصُ فِيما هو شَأْنُهُ، وهو الرِّسالَةُ بِقَرِينَةِ المَقامِ.

وقَرَأ حَمْزَةُ، وعاصِمٌ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ بِفَتْحِ اللّامِ مِن أخْلَصَهُ، إذا اصْطَفاهُ.

صفحة ١٢٧

وخُصَّ مُوسى بِعُنْوانِ (المُخْلِصِ) عَلى الوَجْهَيْنِ لِأنَّ ذَلِكَ مَزِيَّتُهُ، فَإنَّهُ أخْلَصَ في الدَّعْوَةِ إلى اللَّهِ فاسْتَخَفَّ بِأعْظَمِ جَبّارٍ وهو فِرْعَوْنُ، وجادَلَهُ مُجادَلَةَ الأكْفاءِ، كَما حَكى اللَّهُ عَنْهُ في قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ الشُّعَراءِ ﴿قالَ ألَمْ نُرَبِّكَ فِينا ولِيدًا ولَبِثْتَ فِينا مِن عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ [الشعراء: ١٨] ﴿وفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ﴾ [الشعراء: ١٩] إلى قَوْلِهِ ﴿قالَ أوَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: ٢٩] . وكَذَلِكَ ما حَكاهُ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ ﴿قالَ رَبِّ بِما أنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ [القصص: ١٧]، فَكانَ الإخْلاصُ في أداءِ أمانَةِ اللَّهِ تَعالى مِيزَتَهُ.

ولِأنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ لِكَلامِهِ مُباشَرَةً قَبْلَ أنْ يُرْسِلَ إلَيْهِ المَلَكَ بِالوَحْيِ، فَكانَ مُخْلَصًا بِذَلِكَ، أيْ مُصْطَفًى، لِأنَّ ذَلِكَ مَزِيَّتُهُ قالَ تَعالى ﴿واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ [طه: ٤١] . والجَمْعُ بَيْنَ وصْفِ مُوسى لِأنَّهُ رَسُولٌ ونَبِيءٌ. وعُطِفَ (نَبِيئًا) عَلى رَسُولًا مَعَ أنَّ الرَّسُولَ بِالمَعْنى الشَّرْعِيِّ أخَصُّ مِنَ النَّبِيءِ، فَلِأنَّ الرَّسُولَ هو المُرْسَلُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ لِيُبَلِّغَ إلى النّاسِ فَلا يَكُونُ الرَّسُولُ إلّا نَبِيئًا، وأمّا النَّبِيءُ فَهو المُنَبَّأُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ وإنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ، فَإذا لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّبْلِيغِ فَهو نَبِيءٌ ولَيْسَ رَسُولًا، فالجَمْعُ بَيْنَهُما هُنا لِتَأْكِيدِ الوَصْفِ، إشارَةً إلى أنَّ رِسالَتَهُ بَلَغَتْ مَبْلَغًا قَوِيًّا، فَقَوْلُهُ (نَبِيئًا) تَأْكِيدٌ لَوَصْفِ رَسُولًا.

وتَقَدَّمَ اخْتِلافُ القُرّاءِ في لَفْظِ نَبِيئًا عِنْدَ ذِكْرِ إبْراهِيمَ.

وجُمْلَةُ ونادَيْناهُ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ إنَّهُ كانَ مُخْلِصًا فَهي مِثْلُها مُسْتَأْنَفَةٌ.

والنِّداءُ: الكَلامُ الدّالُّ عَلى طَلَبِ الإقْبالِ، وأصْلُهُ: جَهْرُ الصَّوْتِ لِإسْماعِ البَعِيدِ، فَأُطْلِقَ عَلى طَلَبِ إقْبالِ أحَدٍ مَجازًا مُرْسَلًا، ومِنهُ

صفحة ١٢٨

﴿إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ﴾ [الجمعة: ٩]، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ النَّدى بِفَتْحِ النُّونِ وبِالقَصْرِ وهو بُعْدُ الصَّوْتِ. ولَمْ يُسْمَعْ فِعْلُهُ إلّا بِصِيغَةِ المُفاعَلَةِ، ولَيْسَتْ بِحُصُولِ فِعْلٍ مِن جانِبَيْنِ بَلِ المُفاعَلَةُ لِلْمُبالَغَةِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إلّا دُعاءً ونِداءً﴾ [البقرة: ١٧١] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وعِنْدَ قَوْلِهِ ﴿رَبَّنا إنَّنا سَمِعْنا مُنادِيًا يُنادِي لِلْإيمانِ﴾ [آل عمران: ١٩٣] في آلِ عِمْرانَ. وهَذا النِّداءُ هو الكَلامُ المُوَجَّهُ إلَيْهِ مِن جانِبِ اللَّهِ تَعالى، قالَ تَعالى ﴿إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلى النّاسِ بِرِسالاتِي وبِكَلامِي﴾ [الأعراف: ١٤٤] في سُورَةِ الأعْرافِ. وتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ صِفَتِهِ هُناكَ وعِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٦] في سُورَةِ بَراءَةَ.

والطُّورُ: الجَبَلُ الواقِعُ بَيْنَ بِلادِ الشّامِ ومِصْرَ، ويُقالُ: لَهُ طُورُ سَيْناءَ. وجانِبُهُ: ناحِيَتُهُ السُّفْلى، ووَصْفُهُ بِ ”الأيْمَنَ“ لِأنَّهُ الَّذِي عَلى يَمِينِ مُسْتَقْبِلِ مَشْرِقِ الشَّمْسِ، لِأنَّ جِهَةَ الشَّمْسِ هي الجِهَةُ الَّتِي يَضْبُطُ بِها البَشَرُ النَّواحِيَ.

والتَّقْرِيبُ: أصْلُهُ الجَعْلُ بِمَكانِ القُرْبِ، وهو الدُّنُوُّ وهو ضِدُّ البُعْدِ. وأُرِيدَ هُنا القُرْبُ المَجازِيُّ وهو الوَحْيُ. فَقَوْلُهُ (نَجِيًّا) حالٌ مِن ضَمِيرِ (مُوسى)، وهي حالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنى التَّقْرِيبِ.

ونَجِيٌّ: فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ مِنَ المُناجاةِ. وهي المُحادَثَةُ السِّرِّيَّةُ؛ شُبِّهَ الكَلامُ الَّذِي لَمْ يُكَلِّمْ بِمِثْلِهِ أحَدًا ولا أطْلَعَ عَلَيْهِ أحَدًا، بِالمُناجاةِ. وفَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، يَجِيءُ مِنَ الفِعْلِ المَزِيدِ المُجَرَّدِ بِحَذْفِ حَرْفِ الزِّيادَةِ، مِثْلَ جَلِيسٍ ونَدِيمٍ ورَضِيعٍ.

ومَعْنى هِبَةِ أخِيهِ لَهُ: أنَّ اللَّهَ عَزَّزَهُ بِهِ وأعانَهُ بِهِ، إذْ جَعَلَهُ نَبِيئًا وأمَرَهُ أنْ يُرافِقَهُ في الدَّعْوَةِ، لِأنَّ في لِسانِ مُوسى حُبْسَةً، وكانَ هارُونُ

صفحة ١٢٩

فَصِيحُ اللِّسانِ. فَكانَ يَتَكَلَّمُ عَنْ مُوسى بِما يُرِيدُ إبْلاغَهُ، وكانَ يَسْتَخْلِفُهُ في مُهِمّاتِ الأُمَّةِ. وإنَّما جُعِلَتْ تِلْكَ الهِبَةُ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ لِأنَّ اللَّهَ رَحِمَ مُوسى إذْ يَسَّرَ لَهُ أخًا فَصِيحَ اللِّسانِ، وأكْمَلَهُ بِالثَّناءِ حَتّى يَعْلَمَ مُرادَ مُوسى مِمّا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعالى. ولَمْ يُوصَفْ هارُونُ بِأنَّهُ رَسُولٌ إذْ لَمْ يُرْسِلْهُ اللَّهُ تَعالى وإنَّما جَعَلَهُ مُبَلِّغًا عَنْ مُوسى. وأمّا قَوْلُهُ تَعالى (﴿فَقُولا إنّا رَسُولا رَبِّكَ﴾ [طه: ٤٧]) فَهو مِنَ التَّغْلِيبِ.