﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ مِنَ النَّبِيئِينَ مِن ذُرِّيَةِ آدَمَ ومِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ومِن ذُرِّيَةِ إبْراهِيمَ وإسْرائِيلَ ومِمَّنْ هَدَيْنا واجْتَبَيْنا إذا تُتْلى عَلَيْهِمُ آياتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وبُكِيّا﴾ .

الجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيُّ، واسْمُ الإشارَةِ عائِدٌ إلىِ المَذْكُورِينَ مِن قَوْلِهِ (﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّاءَ﴾ [مريم: ٢]) إلى هُنا. والإتْيانُ بِهِ دُونَ الضَّمِيرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ المُشارَ إلَيْهِمُ جَدِيرُونَ بِما يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الإشارَةِ لِأجْلِ ما ذُكِرَ مَعَ المُشارِ إلَيْهِمُ مِنَ الأوْصافِ، أيْ كانُوا أحْرِياءَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمُ وكَوْنُهُمُ في عِدادِ المَهْدِيِّينَ المُجْتَبَيْنَ وخَلِيقِينَ بِمَحَبَّتِهِمُ لِلَّهِ تَعالى وتَعْظِيمِهِمْ إيّاهُ.

صفحة ١٣٣

والمَذْكُورُ بَعْدَ اسْمِ الإشارَةِ هو مَضْمُونُ قَوْلِهِ (أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ) وقَوْلِهِ (﴿ومِمَّنْ هَدَيْنا واجْتَبَيْنا﴾)، فَإنَّ ذَلِكَ أحْسَنُ جَزاءٍ عَلى ما قَدَّمُوهُ مِنَ الأعْمالِ، ومَن أُعْطَوْهُ مِن مَزايا النُّبُوءَةِ والصِّدِيقِيَّةِ ونَحْوِهِما. وتِلْكَ وإنْ كانَتْ نِعَمًا وهِدايَةً واجْتِباءً فَقَدْ زادَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِإسْنادِ تِلْكَ العَطايا إلىِ اللَّهِ تَعالى تَشْرِيفًا لَها، فَكانَ ذَلِكَ التَّشْرِيفُ هو الجَزاءُ عَلَيْها إذْ لا أزْيَدُ مِنَ المُجازى عَلَيْهِ إلّا تَشْرِيفُهُ.

وقَرَأ الجُمْهُورُ مِنَ النَّبِيِينَ بِياءَيْنِ بَعْدَ المُوَحَّدَةِ. وقَرَأهُ نافِعٌ وحْدَهُ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ المُوَحَّدَةِ.

وجُمْلَةُ (﴿إذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمَنِ﴾) مُسْتَأْنَفَةٌ دالَّةٌ عَلى شُكْرِهِمُ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمُ وتَقْرِيبِهِ إيّاهُمُ بِالخُضُوعِ لَهُ بِالسُّجُودِ عِنْدَ تِلاوَةِ آياتِهِ وبِالبُكاءِ. والمُرادُ بِهِ البُكاءُ النّاشِئُ عَنِ انْفِعالِ النَّفْسِ انْفِعالًا مُخْتَلِطًا مِنَ التَّعْظِيمِ والَخَوْفِ.

وسُجَّدًا جَمْعُ ساجِدٍ، وبُكِيًّا جَمْعُ باكٍ. والأوَّلُ بِوَزْنِ فُعَّلَ مِثْلُ عُذَّلٍ، والثّانِي وزَنُهُ فُعُولٌ جَمْعُ فاعِلٍ؛ مِثْلُ قَوْمٍ قُعُودٍ، وهو يَأْتِي لِأنَّ فِعْلَهُ بَكى يَبْكِي، فَأصْلُهُ: بُكُويٌّ، فَلَمّا اجْتَمَعَ الواوُ والياءُ وسُبِقَ إحْداهُما بِالسُّكُونِ قُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ في الياءِ وحُرِّكَتْ عَيْنُ الكَلِمَةِ بِحَرَكَةٍ مُناسِبَةٍ لِلْياءِ. وهَذا الوَزْنُ سَماعِيُّ في جَمْعِ فاعِلٍ ومِثْلِهِ.

وهَذِهِ الآيَةُ مِن مَواضِعِ سُجُودِ القُرْآنِ المَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيءِ - صَلّىِ اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - اقْتِداءً بِأُولَئِكَ الأنْبِياءِ في السُّجُودِ عِنْدَ تِلاوَةِ القُرْآنِ، فَهم سَجَدُوا كَثِيرًا عِنْدَ تِلاوَةِ آياتِ اللَّهِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمُ، ونَحْنُ نَسْجُدُ

صفحة ١٣٤

اقْتِداءً بِهِمْ عِنْدَ تِلاوَةِ الآياتِ الَّتِي أُنْزِلَتْ إلَيْنا. وأثْنَتْ عَلى سُجُودِهِمْ قَصْدًا لِلتَّشَبُّهِ بِهِمْ بِقَدْرِ الطّاقَةِ حِينَ نَحْنُ مُتَلَبِّسُونَ بِذِكْرِ صَنِيعِهِمْ. وقَدْ سَجَدَ النَّبِيءُ - صَلّىِ اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عِنْدَ هَذِهِ الآيَةِ وسَنَّ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ.