صفحة ١٦٥

﴿ألَمْ تَرَ أنّا أرْسَلْنا الشَّياطِينَ عَلى الكافِرِينَ تَؤُزُّهم أزًّا﴾ ﴿فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إنَّما نَعُدُّ لَهم عَدًّا﴾ .

اسْتِئْنافٌ بَيانِيُّ لِجَوابِ سُؤالٍ يَجِيشُ في نَفْسِ الرَّسُولِ ﷺ مِن إيغالِ الكافِرِينَ في الضَّلالِ جَماعَتَهم. وآحادَهم، وما جَرَّهُ إلَيْهِمْ مِن سُوءِ المَصِيرِ ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ تَعالى (﴿ويَقُولُ الإنْسانُ أإذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا﴾ [مريم: ٦٦])، وما تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِن ذِكْرِ إمْهالِ اللَّهِ إيّاهم في الدُّنْيا، وما أعَدَّ لَهم مِنَ العَذابِ في الآخِرَةِ. وهي مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ (﴿واتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً﴾ [مريم: ٨١]) وجُمْلَةِ (﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ﴾ [مريم: ٨٥]) . وأيْضًا هي كالتَّذْيِيلِ لِتِلْكَ الآياتِ والتَّقْرِيرِ لِمَضْمُونِها لِأنَّها تَسْتَخْلِصُ أحْوالَهم، وتَتَضَمَّنُ تَسْلِيَةَ الرَّسُولِ ﷺ عَنْ إمْهالِهِمْ وعَدَمِ تَعْجِيلِ عِقابِهِمْ. والِاسْتِفْهامُ في (ألَمْ تَرَ) تَعْجِيبِيُّ. ومَثَلُهُ شائِعٌ في كَلامِ العَرَبِ يَجْعَلُونَ الِاسْتِفْهامَ عَلى نَفْيِ فِعْلٍ.

والمُرادُ حُصُولُ ضِدِّهِ بِحَثِّ المُخاطَبِ عَلى الِاهْتِمامِ بِتَحْصِيلِهِ، أيْ كَيْفَ لَمْ تَرَ ذَلِكَ. ونُزِّلَ إرْسالُ الشَّياطِينَ عَلى الكافِرِينَ لِاتِّضاحِ آثارِهِ مَنزِلَةَ الشَّيْءِ المَرْئِيِّ المُشاهَدِ، فَوَقَعَ التَّعْجِيبُ مِن مَرْآهُ بِقَوْلِهِ: ألَمْ تَرَ ذَلِكَ.

والأزُّ: الهَزُّ والِاسْتِفْزازُ الباطِنِيُّ، مَأْخُوذٌ مِن أزِيزِ القِدْرِ إذا اشْتَدَّ غَلَيانُها. شَبَّهَ اضْطِرابَ اعْتِقادِهِمْ وتَناقُضَ أقْوالِهِمْ واخْتِلاقَ أكاذِيبِهِمْ بِالغَلَيانِ في صُعُودٍ وانْخِفاضٍ وفَرْقَعَةٍ وسُكُونٍ، فَهو اسْتِعارَةٌ فَتَأْكِيدُهُ بِالمَصْدَرِ تَرْشِيحٌ. وإرْسالُ الشَّياطِينَ عَلَيْهِمْ تَسْخِيرُهم لَها وعَدَمُ انْتِفاعِهِمْ بِالإرْشادِ النَّبَوِيِّ المُنْقِذِ مِن حَبائِلِها، وذَلِكَ لِكُفْرِهِمْ وإعْراضِهِمْ عَنِ اسْتِماعِ

صفحة ١٦٦

مَواعِظِ الوَحْيِ. ولِلْإشارَةِ إلى هَذا المَعْنى عَدَلَ عَنِ الإضْمارِ إلى الإظْهارِ في قَوْلِهِ (﴿عَلى الكافِرِينَ﴾) . وجَعَلَ تَؤُزُّهم حالًا مُقَيَّدًا لِلْإرْسالِ؛ لِأنَّ الشَّياطِينَ مُرْسَلَةٌ عَلى جَمِيعِ النّاسِ ولَكِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ المُؤْمِنِينَ مِن كَيْدِ الشَّياطِينَ عَلى حَسْبِ قُوَّةِ الإيمانِ وصَلاحِ العَمَلِ، قالَ تَعالى (﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغاوِينَ﴾ [الحجر: ٤٢]) .

وفُرِّعَ عَلى هَذا الِاسْتِئْنافِ وهَذِهِ التَّسْلِيَةِ قَوْلُهُ (﴿فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ﴾)، أيْ فَلا تَسْتَعْجِلِ العَذابَ لَهم إنَّما نَعُدُّ لَهم عَدًّا. وعُبِّرَ بِ (﴿تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ﴾) مُعَدًّى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلاءِ إكْرامًا لِلنَّبِيءِ ﷺ بِأنْ نُزِّلَ مَنزِلَةَ الَّذِي هَلاكُهم بِيَدِهِ. فَنَهى عَنْ تَعْجِيلِهِ بِهَلاكِهِمْ. وذَلِكَ إشارَةٌ إلى قَبُولِ دُعائِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، فَلَوْ دَعا عَلَيْهِمْ بِالهَلاكِ لِأهْلَكَهُمُ اللَّهُ كَيْلا يَرُدَّ دَعْوَةَ نَبِيئِهِ ﷺ، لِأنَّهُ يُقالُ: عَجِلَ عَلى فُلانٍ بِكَذا، أيْ أسْرَعَ بِتَسْلِيطِهِ عَلَيْهِ، كَما يُقالُ: عَجِلَ إلَيْهِ إذا أسْرَعَ بِالذَّهابِ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ (﴿وعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى﴾ [طه: ٨٤])، فاخْتِلافُ حُرُوفِ تَعْدِيَةِ فِعْلِ عَجَّلَ يُنْبِئُ عَنِ اخْتِلافِ المَعْنى المَقْصُودِ بِالتَّعْجِيلِ. ولَعَلَّ سَبَبَ الِاخْتِلافِ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ وبَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى (﴿فَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ [الأحقاف: ٣٥]) في سُورَةِ الأحْقافِ أنَّ المُرادَ هُنا اسْتِعْجالُ الِاسْتِئْصالِ والإهْلاكِ وهو مُقَدَّرٌ كَوْنُهُ عَلى يَدِ النَّبِيءِ ﷺ، فَلِذَلِكَ قِيلَ هُنا (﴿فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ﴾)، أيِ انْتَظِرْ يَوْمَهُمُ المَوْعُودَ، وهو يَوْمُ بَدْرٍ، ولِذَلِكَ عُقِّبَ بِقَوْلِهِ (﴿إنَّما نَعُدُّ لَهم عَدًّا﴾)، أيْ نُنْظِرُهم ونُؤَجِّلُهم، وأنَّ العَذابَ المَقْصُودَ في سُورَةِ الأحْقافِ هو عَذابُ الآخِرَةِ لِوُقُوعِهِ في خِلالِ الوَعِيدِ لَهم بِعَذابِ النّارِ لِقَوْلِهِ هُنالِكَ (﴿ويَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلى النّارِ ألَيْسَ هَذا بِالحَقِّ قالُوا بَلى ورَبِّنا قالَ فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [الأحقاف: ٣٤] ﴿فاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ولا تَسْتَعْجِلْ لَهم كَأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِن نَهارٍ﴾ [الأحقاف: ٣٥]) .

صفحة ١٦٧

والعَدُّ: الحِسابُ.

وإنَّما لِلْقَصْرِ، أيْ ما نَحْنُ إلّا نَعُدُّ لَهم، وهو قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلى صِفَةٍ قَصْرًا إضافِيًّا، أيْ نَعُدُّ لَهم ولَسْنا بِناسِينَ لَهم كَما يَظُنُّونَ، أوْ لَسْنا بِتارِكِينَهم مِنَ العَذابِ بَلْ نُؤَخِّرُهم إلى يَوْمٍ مَوْعُودٍ. وأفادَتْ جُمْلَةُ (﴿إنَّما نَعُدُّ لَهم عَدًّا﴾) تَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنِ التَّعْجِيلِ عَلَيْهِمْ لِأنَّ إنَّما مُرَكَّبَةٌ مِن إنَّ وما وإنَّ تُفِيدُ التَّعْلِيلَ كَما تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وقَدِ اسْتُعْمِلَ العَدُّ مَجازًا في قَصْرِ المُدَّةِ لِأنَّ الشَّيْءَ القَلِيلَ يُعَدُّ ويُحْسَبُ. وفي هَذا إنْذارٌ بِاقْتِرابِ اسْتِئْصالِهِمْ.