﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ .

يَقْتَضِي اتِّصالَ الآياتِ بَعْضِها بِبَعْضٍ في المَعانِي أنَّ هَذِهِ الآيَةَ وصَفٌ لِحالِ المُؤْمِنِينَ يَوْمَ القِيامَةِ بِضِدِّ حالِ المُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ حالُ إتْيانِهِمْ غَيْرَ حالِ انْفِرادٍ بَلْ حالُ تَأنُّسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ.

ولَمّا خُتِمَتِ الآيَةُ قَبْلَها بِأنَّ المُشْرِكِينَ آتُونَ يَوْمَ القِيامَةِ مُفْرَدِينَ. وكانَ ذَلِكَ مُشْعِرًا بِأنَّهم آتُونَ إلى ما مِن شَأْنِهِ أنْ يَتَمَنّى المُوَرَّطُ فِيهِ مَن يَدْفَعُ عَنْهُ ويَنْصُرُهُ، وإشْعارُ ذَلِكَ بِأنَّهم مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، أعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ حالِ المُؤْمِنِينَ الصّالِحِينَ، وأنَّهم عَلى العَكْسِ مِن حالِ المُشْرِكِينَ، وأنَّهم يَكُونُونَ يَوْمَئِذٍ بِمَقامِ المَوَدَّةِ والتَّبْجِيلِ. فالمَعْنى: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ أوِدّاءَ مِنَ المَلائِكَةِ كَما قالَ تَعالى (﴿نَحْنُ أوْلِياؤُكم في

صفحة ١٧٥

الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾ [فصلت: ٣١])، ويَجْعَلُ بَيْنَ أنْفُسِهِمْ مَوَدَّةً كَما قالَ تَعالى (﴿ونَزَعْنا ما في صُدُورِهِمْ مِن غِلٍّ﴾ [الأعراف: ٤٣]) . وإيثارُ المَصْدَرِ لِيَفِي بِعِدَّةِ مُتَعَلَّقاتٍ بِالوُدِّ. وفُسِّرَ أيْضًا جَعْلُ الوُدِّ بِأنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لَهم مَحَبَّةً في قُلُوبِ أهْلِ الخَيْرِ. رَواهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الدَّراوَرْدِيِّ. ولَيْسَتْ هَذِهِ الزِّيادَةُ عَنْ أحَدٍ مِمَّنْ رَوى الحَدِيثَ عَنْ غَيْرِ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ ولا عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ في غَيْرِ رِوايَةِ التِّرْمِذِيِّ، فَهَذِهِ الزِّيادَةُ إدْراجٌ مِن قُتَيْبَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ خاصَّةً.

وفُسِّرَ أيْضًا بِأنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ لَهم مَحَبَّةً مِنهُ تَعالى. فالجَعْلُ هُنا كالإلْقاءِ في قَوْلِهِ تَعالى (﴿وألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ [طه: ٣٩]) . هَذا أظْهَرُ الوُجُوهِ في تَفْسِيرِ الوُدِّ. وقَدْ ذَهَبَ فِيهِ جَماعاتُ المُفَسِّرِينَ إلى أقْوالٍ شَتّى مُتَفاوِتَةٍ في القَبُولِ.