﴿ما آمَنَتْ قَبْلَهم مِن قَرْيَةٍ أهْلَكْناها أفَهم يُؤْمِنُونَ﴾

اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ جَوابًا عَلى قَوْلِهِمْ: ﴿كَما أُرْسِلَ الأوَّلُونَ﴾ [الأنبياء: ٥]، والمَعْنى: أنَّ الأُمَمَ الَّتِي أُرْسِلَ إلَيْها الأوَّلُونَ ما أغْنَتْ فِيهِمُ الآياتُ الَّتِي جاءَتْهم كَما ودِدْتُمْ أنْ تَكُونَ لَكم مِثْلُها فَما آمَنُوا، ولِذَلِكَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الإهْلاكُ، فَشَأْنُكم أيُّها المُشْرِكُونَ كَشَأْنِهِمْ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما مَنَعَنا أنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إلّا أنْ كَذَّبَ بِها الأوَّلُونَ﴾ [الإسراء: ٥٩] في سُورَةِ الإسْراءِ.

وإنَّما أمْسَكَ اللَّهُ الآياتِ الخَوارِقَ عَنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ؛ لِأنَّهُ أرادَ اسْتِبْقاءَهم لِيَكُونَ مِنهم مُؤْمِنُونَ وتَكُونَ ذُرِّيّاتُهم حَمَلَةَ هَذا الدِّينِ في العالَمِ، ولَوْ أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الآياتُ البَيِّنَةُ لَكانَتْ سُنَّةُ اللَّهِ أنْ يَعْقُبَها عَذابُ الِاسْتِئْصالِ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها.

و”ما“ نافِيةٌ. و”مِن“ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن قَرْيَةٍ﴾ [الأعراف: ٤] مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ المُسْتَفادِ مِن حَرْفِ ”ما“ . ومُتَعَلِّقُ ”آمَنَتْ“ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّياقُ، أيْ ما آمَنَتْ بِالآياتِ قَرْيَةٌ. وجُمْلَةُ ”أهْلَكْناها“ صِفَةٌ لِـ ”قَرْيَةٍ“ ورَدَتْ مُسْتَطْرَدَةً لِلتَّعْرِيضِ بِالوَعِيدِ بِأنَّ المُشْرِكِينَ أيْضًا يَتَرَقَّبُونَ الإهْلاكَ.

صفحة ١٨

وذُكِرَتِ القَرْيَةُ هُنا مُرادًا بِها أهْلُها لِيُبْنى عَلَيْها الوَصْفُ بِإهْلاكِها؛ لِأنَّ الإهْلاكَ أصابَ أهْلَ القُرى وقُراهم، فَلِذَلِكَ قِيلَ: ”أهْلَكْناها“ دُونَ ”أهْلَكْناهم“ كَما في سُورَةِ الكَهْفِ: ﴿وتِلْكَ القُرى أهْلَكْناهُمْ﴾ [الكهف: ٥٩] . وفُرِّعَتْ جُمْلَةُ ”أفَهم يُؤْمِنُونَ“ عَلى جُمْلَةِ ﴿ما آمَنَتْ قَبْلَهم مِن قَرْيَةٍ﴾ مُقْتَرِنَةً بِاسْتِفْهامِ الإنْكارِ، أيْ فَهم لا يُؤْمِنُونَ لَوْ أتَيْناهم بِآيَةٍ كَما اقْتَرَحُوا كَما لَمْ يُؤَمِنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمُ الَّذِينَ جَعَلُوهم مِثالًا في قَوْلِهِمْ: ﴿كَما أُرْسِلَ الأوَّلُونَ﴾ [الأنبياء: ٥] وهَذا أخْذٌ لَهم بِلازِمِ قَوْلِهِمْ.