﴿وما أرْسَلْنا قَبْلَكَ إلّا رِجالًا يُوحى إلَيْهِمْ فاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾

عَطْفُ جَوابٍ عَلى جَوابٍ. والمَقْصُودُ مِن هَذا إبْطالُ مَقْصُودِهِمْ مِن قَوْلِهِمْ: ﴿هَلْ هَذا إلّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [الأنبياء: ٣] إذْ أرادُوا أنَّهُ لَيْسَ بِأهْلٍ لِلِامْتِيازِ عَنْهم بِالرِّسالَةِ عَنِ اللَّهِ تَعالى، فَبَيَّنَ خَطَأهم في اسْتِدْلالِهِمْ بِأنَّ الرُّسُلَ الأوَّلِينَ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِرِسالَتِهِمْ ما كانُوا إلّا بَشَرًا، وأنَّ الرِّسالَةَ لَيْسَتْ إلّا وحْيًا مِنَ اللَّهِ لِمَنِ اخْتارَهُ مِنَ البَشَرِ.

وقَوْلُهُ: ”إلّا رِجالًا“ يَقْتَضِي أنْ لَيْسَ في النِّساءِ رُسُلًا وهَذا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وإنَّما الخِلافُ في نُبُوءَةِ النِّساءِ مِثْلِ مَرْيَمَ أُخْتِ مُوسى ومَرْيَمَ أُمِّ عِيسى. ثُمَّ عَرَّضَ بِجَهْلِهِمْ وفَضَحَ خَطَأهم، فَأمَرَهم أنْ يَسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ، أيِ العِلْمِ بِالكُتُبِ والشَّرائِعِ السّالِفَةِ مِنَ الأحْبارِ والرُّهْبانِ، وجُمْلَةُ ﴿فاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ﴾ إلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الجُمَلِ المُتَعاطِفَةِ. وتَوْجِيهُ الخِطابِ لَهم بَعْدَ كَوْنِ الكَلامِ جَرى عَلى أُسْلُوبِ الغَيْبَةِ التِفاتٌ، ونُكْتَتُهُ أنَّ الكَلامَ لَمّا كانَ في بَيانِ الحَقائِقِ الواقِعَةِ أعْرَضَ

صفحة ١٩

عَنْهم في تَقْرِيرِهِ، وجُعِلَ مِنَ الكَلامِ المُوَجَّهِ إلى كُلِّ سامِعٍ، وجُعِلُوا فِيهِ مُعَبَّرًا عَنْهم بِضَمائِرِ الغَيْبَةِ، ولَمّا أُرِيدَ تَجْهِيلُهم وإلْجاؤُهم إلى الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ غُيِّرَ الكَلامُ إلى الخِطابِ؛ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ وتَقْرِيعًا لَهم بِتَجْهِيلِهِمْ.