﴿وما جَعَلْناهم جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وما كانُوا خالِدِينَ﴾

الجَسَدُ: الجِسْمُ الَّذِي لا حَياةَ فِيهِ، وهو يُرادِفُ الجُثَّةَ. هَذا قَوْلُ المُحَقِّقِينَ مِن أئِمَّةِ اللُّغَةِ مِثْلِ أبِي إسْحاقَ الزَّجّاجِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأخْرَجَ لَهم عِجْلًا جَسَدًا﴾ [طه: ٨٨] . وقَدْ تَقَدَّمَ هُناكَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ وألْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا﴾ [ص: ٣٤] . قِيلَ هو شِقُّ غُلامٍ لا رُوحَ فِيهِ، ولَدَتْهُ إحْدى نِسائِهِ، أيْ ما جَعَلْناهم أجْرامًا غَيْرَ مُنْبَثَّةٍ فِيها الأرْواحُ بِحَيْثُ تَنْتَفِي عَنْهم صِفاتُ البَشَرِ الَّتِي خاصَّتُها أكْلُ الطَّعامِ، وهَذا رَدٌّ لِما يَقُولُونَهُ: ﴿ما لِهَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ﴾ [الفرقان: ٧] مَعَ قَوْلِهِمْ هُنا: ﴿هَلْ هَذا إلّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [الأنبياء: ٣] .

وذِكْرُ الجَسَدِ يُفِيدُ التَّهَكُّمَ بِالمُشْرِكِينَ؛ لِأنَّهم لَمّا قالُوا: ﴿ما لِهَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ﴾ [الفرقان: ٧]، وسَألُوا أنْ يَأْتِيَ بِما أُرْسِلَ بِهِ الأوَّلُونَ - كانَ مُقْتَضى أقْوالِهِمْ أنَّ الرُّسُلَ الأوَّلِينَ كانُوا في صُوَرِ الآدَمِيِّينَ لَكِنَّهم لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ، وأكْلُ الطَّعامِ مِن لَوازِمِ الحَياةِ، فَلَزِمَهم لَمّا قالُوا: ما لِهَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ أنْ يَكُونُوا قائِلِينَ بِأنَّ شَأْنَ الرُّسُلِ أنْ يَكُونُوا أجْسادًا بِلا أرْواحٍ، وهَذا مِنَ السَّخافَةِ بِمَكانَةٍ. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وما كانُوا خالِدِينَ﴾ فَهو زِيادَةُ اسْتِدْلالٍ لِتَحْقِيقِ بَشَرِيَّتِهِمُ اسْتِدْلالًا بِما هو واقِعٌ مِن عَدَمِ كَفاءَةِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ كَما هو مَعْلُومٌ بِالمُشاهَدَةِ، لِقَطْعِ مَعاذِيرِ الضّالِّينَ، فَإنْ زَعَمُوا أنْ قَدْ كانَ الرُّسُلُ

صفحة ٢٠

الأوَّلُونَ مُخالِفِينَ لِلْبَشَرِ فَماذا يَصْنَعُونَ في لَحاقِ الفَناءِ إيّاهم، فَهَذا وجْهُ زِيادَةِ ﴿وما كانُوا خالِدِينَ﴾ . وأُتِيَ في نَفْيِ الخُلُودِ عَنْهم بِصِيغَةِ ”ما كانُوا“ تَحْقِيقًا لِتَمَكُّنِ عَدَمِ الخُلُودِ مِنهم.