صفحة ٥٨

﴿وجَعَلْنا السَّماءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وهم عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ﴾

لَمّا ذُكِرَ الِاعْتِبارُ بِخَلْقِ الأرْضِ وما فِيها ناسَبَ بِحُكْمِ الطِّباقِ ذِكْرَ خَلْقِ السَّماءِ عَقِبَهُ، إلّا أنَّ حالَةَ خَلْقِ الأرْضِ فِيها مَنافِعٌ لِلنّاسِ. فَعَقَّبَ ذِكْرَها بِالِامْتِنانِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْ تَمِيدَ بِهِمْ﴾ [الأنبياء: ٣١]، وبِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَعَلَّهم يَهْتَدُونَ﴾ [الأنبياء: ٣١] . وأمّا حالُ خَلْقِ السَّماءِ فَلا تَظْهَرُ فِيهِ مَنفَعَةٌ، فَلَمْ يَذْكُرْ بَعْدَهُ امْتِنانٌ، ولَكِنَّهُ ذَكَرَ إعْراضَهم عَنِ التَّدَبُّرِ في آياتِ خَلْقِ السَّماءِ الدّالَّةِ عَلى الحِكْمَةِ البالِغَةِ فَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهم عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ﴾؛ فَأُدْمِجَ في خِلالِ ذَلِكَ مِنَّةٌ وهي حِفْظُ السَّماءِ مِن أنْ تَقَعَ بَعْضُ الأجْرامِ الكائِنَةِ فِيها أوْ بَعْضُ أجْزائِها عَلى الأرْضِ فَتُهْلِكَ النّاسَ أوْ تُفْسِدَ الأرْضَ فَتُعَطِّلَ مَنافِعَها، فَذَلِكَ إدْماجٌ لِلْمِنَّةِ في خِلالِ الغَرَضِ المَقْصُودِ الَّذِي لا مَندُوحَةَ عَنِ العِبْرَةِ بِهِ.

والسَّقْفُ حَقِيقَتُهُ: غِطاءُ فَضاءِ البَيْتِ المَوْضُوعُ عَلى جُدْرانِهِ، ولا يُقالُ السَّقْفُ عَلى غِطاءِ الخِباءِ والخَيْمَةِ، وأُطْلِقَ السَّقْفُ عَلى السَّماءِ عَلى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ البَلِيغِ، أيْ جَعَلْناها كالسَّقْفِ؛ لِأنَّ السَّماءَ لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً عَلى عَمَدٍ مِنَ الأرْضِ، قالَ تَعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها﴾ [الرعد: ٢] وقَدْ تَقَدَّمَ في أوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ، وجُمْلَةُ ﴿وهم عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ، وآياتُ السَّماءِ: ما تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ السَّماءُ مِنَ الشَّمْسِ والقَمَرِ والكَواكِبِ والشُّهُبِ وسَيْرِها وشُرُوقِها وغُرُوبِها وظُهُورِها وغَيْبَتِها، وابْتِناءِ ذَلِكَ عَلى حِسابٍ قَوِيمٍ وتَرْتِيبٍ عَجِيبٍ، وكُلُّها دَلائِلُ عَلى الحِكْمَةِ البالِغَةِ

صفحة ٥٩

فَلِذَلِكَ سَمّاها آياتٍ. وكَذَلِكَ ما يَبْدُو لَنا مِن جِهَةِ السَّماءِ مِثْلَ السَّحابِ والبَرْقِ والرَّعْدِ.

﴿وهْوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ والنَّهارَ والشَّمْسَ والقَمَرَ﴾ [الأنبياء: ٣٣]

لَمّا كانَتْ في إيجادِ هَذِهِ الأشْياءِ المَعْدُودَةِ هُنا مَنافِعٌ لِلنّاسِ سِيقَتْ في مَعْرِضِ المِنَّةِ بِصَوْغِها في صِيغَةِ الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ المُعَرَّفَةِ الجُزْأيْنِ؛ لِإفادَةِ القَصْرِ، وهو قَصْرُ إفْرادٍ إضافِيٍّ بِتَنْزِيلِ المُخاطَبِينَ مِنَ المُشْرِكِينَ مَنزِلَةَ مَن يَعْتَقِدُ أنَّ أصْنامَهم مُشارَكَةٌ لِلَّهِ في خَلْقِ تِلْكَ الأشْياءِ؛ لِأنَّهم لَمّا عَبَدُوا الأصْنامَ والعِبادَةُ شُكْرٌ، لَزِمَهم أنَّهم يَشْكُرُونَها وقَدْ جَعَلُوها شُرَكاءَ لِلَّهِ، فَلَزِمَهم أنَّهم يَزْعُمُونَ أنَّها شَرِيكَةٌ لِلَّهِ في خَلْقِ ما خَلَقَ لِيَنْتَقِلَ مِن ذَلِكَ إلى إبْطالِ إشْراكِهِمْ إيّاها في الإلَهِيَّةِ.

ولِكَوْنِ المِنَّةِ والعِبْرَةِ في إيجادِ نَفْسِ اللَّيْلِ والنَّهارِ ونَفْسِ الشَّمْسِ والقَمَرِ، لا في إيجادِها عَلى حالَةٍ خاصَّةٍ - جِيءَ هُنا بِفِعْلِ الخَلْقِ لا بِفِعْلِ الجَعْلِ.

وخَلْقُ اللَّيْلِ هو جُزْءٌ مِن جُزْئِيّاتِ خَلْقِ الظُّلْمَةِ الَّتِي أوْجَدَ اللَّهُ الكائِناتِ فِيها قَبْلَ خَلْقِ الأجْسامِ الَّتِي تُفِيضُ النُّورَ عَلى المَوْجُوداتِ، فَإنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ، والنُّورَ وُجُودِيٌّ وهو ضِدُّ الظُّلْمَةِ، والعَدَمُ سابِقٌ لِلْوُجُودِ، فالحالَةُ السّابِقَةُ لِوُجُودِ الأجْرامِ النَّيِّرَةِ هي الظُّلْمَةُ، واللَّيْلُ ظَلَمَةٌ تَرْجِعُ لِجُرْمِ الأرْضِ عِنْدَ انْصِرافِ الأشِعَّةِ عَنِ الأرْضِ، وأمّا خَلْقُ النَّهارِ فَهو بِخَلْقِ الشَّمْسِ ومَن تُوَجُّهِ أشِعَّتِها إلى النِّصْفِ المُقابِلِ لِلْأشِعَّةِ مِنَ الكُرَةِ الأرْضِيَّةِ، فَخَلْقُ النَّهارِ تَبَعٌ لِخَلْقِ الشَّمْسِ وخَلْقِ الأرْضِ ومُقابَلَةِ الأرْضِ لِأشِعَّةِ الشَّمْسِ؛ ولِذَلِكَ كانَ لِذِكْرِ خَلْقِ

صفحة ٦٠

الشَّمْسِ عَقِبَ ذِكْرِ خَلْقِ النَّهارِ مُناسَبَةٌ قَوِيَّةٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلى مَنشَأِ خَلْقِ النَّهارِ كَما هو مَعْلُومٌ، وأمّا ذِكْرُ خَلْقِ القَمَرِ فَلِمُناسَبَةِ خَلْقِ الشَّمْسِ، ولِلتَّذْكِيرِ بِمِنَّةِ إيجادِ ما يُنِيرُ عَلى النّاسِ بَعْضَ النُّورِ في بَعْضِ أوْقاتِ الظُّلْمَةِ. وكُلُّ ذَلِكَ مِنَ المِنَنِ.