Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿كُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾
مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا؛ لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ الأشْياءَ المُتَضادَّةَ بِالحَقائِقِ أوْ بِالأوْقاتِ ذِكْرًا مُجْمَلًا في بَعْضِها الَّذِي هو آياتُ السَّماءِ، ومُفَصَّلًا في بَعْضٍ آخَرَ وهو الشَّمْسُ والقَمَرُ، كانَ المَقامُ مُثِيرًا في نُفُوسِ السّامِعِينَ سُؤالًا عَنْ كَيْفِيَّةِ سَيْرِها، وكَيْفَ لا يَقَعُ لَها اصْطِدامٌ أوْ يَقَعُ مِنها تَخَلُّفٌ عَنِ الظُّهُورِ في وقْتِهِ المَعْلُومِ، فَأُجِيبَ بِأنَّ كُلَّ المَذْكُوراتِ لَهُ فَضاءٌ يَسِيرُ فِيهِ لا يُلاقِي فَضاءَ سَيْرِ غَيْرِهِ، وضَمِيرُ ”يَسْبَحُونَ“ عائِدٌ إلى عُمُومِ آياتِ السَّماءِ وخُصُوصِ الشَّمْسِ والقَمَرِ، وأُجْرِيَ عَلَيْها ضَمِيرُ جَماعَةِ الذُّكُورِ بِاعْتِبارِ تَذْكِيرِ أسْماءِ بَعْضِها مِثْلَ القَمَرِ والكَوْكَبِ.
وقالَ في ”الكَشّافِ“ إنَّهُ رُوعِيَ فِيهِ وصَفُها بِالسِّباحَةِ الَّتِي هي مِن أفْعالِ العُقَلاءِ فَأُجْرِيَ عَلَيْها أيْضًا ضَمِيرُ العُقَلاءِ، يَعْنِي فَيَكُونُ ذَلِكَ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعارَةِ.
وقَوْلُهُ تَعالى ”﴿فِي فَلَكٍ﴾“ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ خَبَرٌ عَنْ ”كُلٌّ“، و”كُلٌّ“ مُبْتَدَأٌ وتَنْوِينُهُ عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ، أيْ كُلُّ تِلْكَ، فَهو مَعْرِفَةٌ تَقْدِيرًا، وهو المَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِئْنافِ بِأنْ يُفادَ أنَّ كُلًّا مِنَ المَذْكُوراتِ مُسْتَقِرٌّ
صفحة ٦١
فِي فَلَكٍ لا يُصادِمُ فَلَكَ غَيْرِهِ، وقَدْ عُلِمَ مِن لَفْظِ ”كُلٌّ“ ومِن ظَرْفِيَّةِ ”في“ أنَّ لَفْظَ ”فَلَكٍ“ عامٌّ، أيْ لِكُلٍّ مِنها فَلَكُهُ، فَهي أفْلاكٌ كَثِيرَةٌ.وجُمْلَةُ ”يَسْبَحُونَ“ في مَوْضِعِ الحالِ.
والسَّبْحُ: مُسْتَعارٌ لِلسَّيْرِ في مُتَّسَعٍ، لا طَرائِقَ فِيهِ مُتَلاقِيَةً كَطَرائِقَ الأرْضِ، وهو تَقْرِيبٌ لِسِيَرِ الكَواكِبِ في الفَضاءِ العَظِيمِ.
والفَلَكُ فَسَّرَهُ أهْلُ اللُّغَةِ بِأنَّهُ مَدارُ النُّجُومِ، وكَذَلِكَ فَسَّرَهُ المُفَسِّرُونَ لِهَذِهِ الآيَةِ، ولَمْ يَذْكُرُوا أنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ في هَذا المَعْنى في كَلامِ العَرَبِ. ويَغْلِبُ عَلى ظَنِّي أنَّهُ مِن مُصْطَلَحاتِ القُرْآنِ ومِنهُ أخَذَهُ عُلَماءُ الإسْلامِ، وهو أحْسَنُ ما يُعَبَّرُ عَنْهُ عَنِ الدَّوائِرِ المَفْرُوضَةِ الَّتِي يُضْبَطُ بِها سَيْرُ كَوْكَبٍ مِنَ الكَواكِبِ وخاصَّةً سَيْرُ الشَّمْسِ وسَيْرَ القَمَرِ، والأظْهَرُ أنَّ القُرْآنَ نَقَلَهُ مِن فَلَكِ البَحْرِ، وهو المَوْجُ المُسْتَدِيرُ، بِتَنْزِيلِ اسْمِ الجَمْعِ مَنزِلَةَ المُفْرَدِ؛ والأصْلُ الأصِيلُ في ذَلِكَ كُلِّهِ فَلْكَةُ المَغْزِلِ، بِفَتْحِ الفاءِ وسُكُونِ اللّامِ، وهي خَشَبَةٌ مُسْتَدِيرَةٌ في أعْلاها مِسْمارٌ مَثْنِيٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الغَزْلُ ويُدارُ لِيَنْفَتِلَ الغَزْلُ.
ومِن بَدائِعِ الإعْجازِ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿كُلٌّ في فَلَكٍ﴾ ”فِيهِ مُحَسِّنٌ بَدِيعِيٌّ، فَإنَّ حُرُوفَهُ تُقْرَأُ مِن آخِرِها عَلى التَّرْتِيبِ كَما تُقْرَأُ مَن أوَّلِها مَعَ خِفَّةِ التَّرْكِيبِ ووَفْرَةِ الفائِدَةِ وجَرَيانِهِ مُجْرى المَثَلِ مِن غَيْرِ تَنافُرٍ ولا غَرابَةٍ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى:“ رَبَّكَ فَكَبِّرْ ”بِطَرْحِ واوِ العَطْفِ، وكِلْتا الآيَتَيْنِ بُنِيَ عَلى سَبْعَةِ أحْرُفٍ، وهَذا النَّوْعُ سَمّاهُ السَّكّاكِيُّ المَقْلُوبَ المُسْتَوِي، وجَعَلَهُ مِن أصْنافِ نَوْعٍ سَمّاهُ القَلْبَ.
وخُصَّ هَذا الصِّنْفُ بِما يَتَأتّى القَلْبُ في حُرُوفِ كَلِماتِهِ. وسَمّاها الحَرِيرِيُّ في المَقاماتِ“ ما لا يَسْتَحِيلُ بِالِانْعِكاسِ ”، وبَنى عَلَيْهِ المَقامَةَ السّادِسَةَ عَشْرَةَ، ووَضَعَ أمْثِلَةً نَثْرًا ونَظْمًا، وفي مُعْظَمِ ما وضَعَهُ مِنَ
صفحة ٦٢
الأمْثِلَةِ تَكَلُّفٌ وتَنافُرٌ وغَرابَةٌ، وكَذَلِكَ ما وضَعَهُ غَيْرُهُ عَلى تَفاوُتِها في ذَلِكَ، والشَّواهِدُ مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ البَدِيعِ فَعَلَيْكَ بِتَتَبُّعِها، وكُلَّما زادَتْ طُولًا زادَتْ ثِقَلًا.قالَ العَلّامَةُ الشِّيرازِيُّ في“ شَرْحِ المِفْتاحِ ”: وهو نَوْعٌ صَعْبُ المَسْلَكِ قَلِيلُ الِاسْتِعْمالِ. قُلْتُ: ولَمْ يَذْكُرُوا مِنهُ شَيْئًا وقَعَ في كَلامِ العَرَبِ فَهو مِن مُبْتَكَراتِ القُرْآنِ.
ذَكَرَ أهْلُ الأدَبِ أنَّ القاضِي الفاضِلَ البَيْسانِيَّ زارَ العِمادَ الكاتِبَ، فَلَمّا رَكِبَ لِيَنْصَرِفَ مِن عِنْدِهِ قالَ لَهُ العِمادُ:“ سِرْ فَلا كَبا بِكَ الفُرْسُ ”فَفَطِنَ القاضِي أنَّ فِيهِ مُحَسِّنَ القَلْبِ فَأجابَهُ عَلى البَدِيهَةِ:“ دامَ عُلا العِمادِ " وفِيهِ مُحَسِّنُ القَلْبِ.