﴿وما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الخُلْدَ أفَإنْ مِتَّ فَهُمُ الخالِدُونَ﴾

عُنِيَتِ الآياتُ مِن أوَّلِ السُّورَةِ بِاسْتِقْصاءِ مَطاعِنِ المُشْرِكِينَ في القُرْآنِ ومَن جاءَ بِهِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿أفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ [الأنبياء: ٣]، وقَوْلُهم: ﴿أضْغاثُ أحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هو شاعِرٌ﴾ [الأنبياء: ٥]، وكانَ مِن جُمْلَةِ أمانِيهِمْ لَمّا أعْياهُمُ اخْتِلاقُ المَطاعِنِ أنْ كانُوا يَتَمَنَّوْنَ مَوْتَ مُحَمَّدٍ ﷺ أوْ يَرْجُونَهُ أوْ يُدَبِّرُونَهُ قالَ تَعالى: ﴿أمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ﴾ [الطور: ٣٠] في سُورَةِ الطُّورِ وقالَ تَعالى: ﴿وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ﴾ [الأنفال: ٣٠] في الأنْفالِ، وقَدْ دَلَّ عَلى أنَّ هَؤُلاءِ هُمُ المَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَإنْ مِتَّ فَهُمُ الخالِدُونَ﴾ فَلَمّا كانَ تَمَنِّيهِمْ مَوْتَهَ وتَرَبُّصُهم بِهِ رَيْبَ المَنُونِ

صفحة ٦٣

يَقْتَضِي أنَّ الَّذِينَ تَمَنَّوْا ذَلِكَ وتَرَبَّصُوا بِهِ كَأنَّهم واثِقُونَ بِأنَّهم يَمُوتُونَ بَعْدَهُ فَتَتِمُّ شَماتَتُهم، أوْ كَأنَّهم لا يَمُوتُونَ أبَدًا فَلا يَشْمَتُ بِهِمْ أحَدٌ - وُجِّهَ إلَيْهِمِ اسْتِفْهامُ الإنْكارِ عَلى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنزِلَةَ مَن يَزْعُمُ أنَّهم خالِدُونَ.

وفِي الآيَةِ إيماءٌ إلى أنَّ الَّذِينَ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ لَهُمُ الإسْلامَ مِمَّنْ قالُوا ذَلِكَ القَوْلَ سَيَمُوتُونَ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيءِ ﷺ فَلا يَشْمَتُونَ بِهِ، فَإنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمْ يَمُتْ حَتّى أهْلَكَ اللَّهُ رُءُوسَ الَّذِينَ عانَدُوهُ وهَدى بَقِيَّتَهم إلى الإسْلامِ. فَفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الخُلْدَ﴾ طَرِيقَةُ القَوْلِ بِالمُوجَبِ، أيْ أنَّكَ تَمُوتُ كَما قالُوا، ولَكِنَّهم لا يَرَوْنَ ذَلِكَ، وهم بِحالِ مَن يَزْعُمُونَ أنَّهم مُخَلَّدُونَ فَأيْقَنُوا بِأنَّهم يَتَرَبَّصُونَ بِكَ رَيْبَ المَنُونِ مِن فَرْطِ غُرُورِهِمْ، فالتَّفْرِيعُ كانَ عَلى ما في الجُمْلَةِ الأُولى مِنَ القَوْلِ بِالمُوجَبِ، أيْ ما هم بِخالِدِينَ حَتّى يُوقِنُوا أنَّهم يَرَوْنَ مَوْتَكَ. وفي الإنْكارِ الَّذِي هو في مَعْنى النَّفْيِ إنْذارٌ لَهم بِأنَّهم لا يَرى مَوْتَهُ مِنهم أحَدٌ.