Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى وهارُونَ الفُرْقانَ وضِياءً وذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم بِالغَيْبِ وهم مِنَ السّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾ ﴿وهَذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أنْزَلْناهُ أفَأنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾
عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿بَلْ قالُوا أضْغاثُ أحْلامٍ﴾ [الأنبياء: ٥] إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الأوَّلُونَ﴾ [الأنبياء: ٥] لِإقامَةِ الحُجَّةِ عَلى المُشْرِكِينَ بِالدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ والإقْناعِيَّةِ والزَّجْرِيَّةِ، ثُمَّ بِدَلائِلِ شَواهِدِ التّارِيخِ وأحْوالِ الأُمَمِ السّابِقَةِ
صفحة ٨٨
الشّاهِدَةِ بِتَنْظِيرِ ما أُوتِيَهُ النَّبِيءُ ﷺ بِما أُوتِيَهُ سَلَفُهُ مِنَ الرُّسُلِ والأنْبِياءِ، وأنَّهُ ما كانَ بِدَعًا مِنَ الرُّسُلِ في دَعْوَتِهِ إلى التَّوْحِيدِ، تِلْكَ الدَّعْوَةِ الَّتِي كَذَّبَهُ المُشْرِكُونَ لِأجْلِها مَعَ ما تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِن ذِكْرِ عِنادِ الأقْوامِ، وثَباتِ الأقْدامِ، والتَّأْيِيدِ مِنَ المَلِكِ العَلّامِ، وفي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ ﷺ عَلى ما يُلاقِيهِ مِن قَوْمِهِ بِأنَّ تِلْكَ سُنَّةُ الرُّسُلِ السّابِقِينَ كَما قالَ تَعالى: ﴿سُنَّةَ مَن قَدْ أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِن رُسُلِنا﴾ [الإسراء: ٧٧] في سُورَةِ الإسْراءِ. فَجاءَ في هَذِهِ الآياتِ بِأخْبارٍ مِن أحْوالِ الرُّسُلِ المُتَقَدِّمِينَ.وفِي سَوْقِ أخْبارِ هَؤُلاءِ الرُّسُلِ والأنْبِياءِ تَفْصِيلٌ أيْضًا لِما بُنِيَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ”﴿وما أرْسَلْنا قَبْلَكَ إلّا رِجالًا يُوحى إلَيْهِمْ﴾ [الأنبياء: ٧]“ الآياتِ، ثُمَّ قَوْلِهِ تَعالى: ”﴿وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إلّا يُوحى إلَيْهِ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا فاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥]“ ثُمَّ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّما أُنْذِرُكم بِالوَحْيِ﴾ [الأنبياء: ٤٥]، واتِّصالِها بِجَمِيعِ ذَلِكَ اتِّصالٍ مُحْكَمٍ؛ ولِذَلِكَ أُعْقِبَتْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهَذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أنْزَلْناهُ أفَأنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ .
وابْتُدِئَ بِذِكْرِ مُوسى وأخِيهِ مَعَ قَوْمِهِما؛ لِأنَّ أخْبارَ ذَلِكَ مَسْطُورَةٌ في كِتابٍ مَوْجُودٍ عِنْدَ أهْلِهِ يَعْرِفُهُمُ العَرَبُ؛ ولِأنَّ أثَرَ إتْيانِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِالشَّرِيعَةِ هو أوْسَعُ أثَرٍ لِإقامَةِ نِظامِ أُمَّةٍ يَلِي عَظَمَةَ شَرِيعَةِ الإسْلامِ.
وافْتِتاحُ القِصَّةِ بِلامِ القَسَمِ المُفِيدَةِ؛ لِلتَّأْكِيدِ لِتَنْزِيلِ المُشْرِكِينَ في جَهْلِ بَعْضِهِمْ بِذَلِكَ، وذُهُولِ بَعْضِهِمْ عَنْهُ، وتَناسِي بَعْضِهِمْ إيّاهُ مَنزِلَةَ مَن يُنْكِرُ تِلْكَ القِصَّةَ. ومَحَلُّ التَّنْظِيرِ في هَذِهِ القِصَّةِ هو تَأْيِيدُ الرَّسُولِ ﷺ بِكِتابٍ مُبِينٍ، وتَلَقِّي القَوْمِ ذَلِكَ الكِتابَ بِالإعْراضِ والتَّكْذِيبِ.
والفَرْقانُ: ما يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ مِن كَلامٍ أوْ فِعْلٍ، وقَدْ سَمّى اللَّهُ تَعالى يَوْمَ بَدْرٍ يَوْمَ الفَرْقانِ؛ لِأنَّ فِيهِ كانَ مَبْدَأ ظُهُورِ قُوَّةِ
صفحة ٨٩
المُسْلِمِينَ ونَصْرُهم، فَيَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالفُرْقانِ التَّوْراةُ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وآتَيْناهُما الكِتابَ المُسْتَبِينَ﴾ [الصافات: ١١٧] في سُورَةِ الصّافّاتِ.والإخْبارُ عَنِ الفُرْقانِ بِإسْنادِ إتْيانِهِ إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهُ لَمْ يَعْدُ كَوْنَهُ إيتاءً مِنَ اللَّهِ تَعالى ووَحْيًا كَما أُوتِيَ مُحَمَّدٌ ﷺ القُرْآنَ فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ إيتاءَ القُرْآنِ وهم يَعْلَمُونَ أنَّ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ما جاءَ إلّا بِمِثْلِهِ. وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى جَلالَةِ ذَلِكَ المُوتى.
ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالفُرْقانِ المُعْجِزاتُ الفارِقَةُ بَيْنَ المُعْجِزَةِ والسِّحْرِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ [غافر: ٢٣] في سُورَةِ غافِرٍ. ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ الشَّرِيعَةُ الفارِقَةُ بَيْنَ العَدْلِ والجَوْرِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ والفُرْقانَ لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٥٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وعَلى الِاحْتِمالاتِ المَذْكُورَةِ تَجِيءُ احْتِمالاتٌ في قَوْلِهِ تَعالى الآتِي ﴿وضِياءً وذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ﴾ . ولَيْسَ يَلْزَمُ أنْ تَكُونَ بَعْضُ هَذِهِ الصِّفاتِ قَسِيمًا لِبَعْضٍ، بَلْ هي صِفاتٌ مُتَداخِلَةٌ، فَمَجْمُوعُ ما أُوتِيَهُ مُوسى وهارُونُ تَتَحَقَّقُ فِيهِ هَذِهِ الصِّفاتُ الثَّلاثُ.
والضِّياءُ: النُّورُ. يُسْتَعْمَلُ مَجازًا في الهُدى والعِلْمِ، وهو اسْتِعْمالٌ كَثِيرٌ، وهو المُرادُ هُنا، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿إنّا أنْزَلْنا التَّوْراةَ فِيها هُدًى ونُورٌ﴾ [المائدة: ٤٤] في سُورَةِ المائِدَةِ.
والذِّكْرُ أصْلُهُ: خُطُورُ شَيْءٍ بِالبالِ بَعْدَ غَفْلَةٍ عَنْهُ. ويُطْلَقُ عَلى الكِتابِ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ. فَقَوْلُهُ تَعالى (لِلْمُتَّقِينَ) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الكَلامُ فِيهِ لِلتَّقْوِيَةِ فَيَكُونَ المَجْرُورُ بِاللّامِ في مَعْنى المَفْعُولِ، أيِ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِتَقْوى اللَّهِ، أيِ امْتِثالِ أوامِرِهِ واجْتِنابِ ما نَهى عَنْهُ، لِأنَّهُ يُذَكِّرُهم بِما يَجْهَلُونَ وبِما يَذْهَلُونَ عَنْهُ مِمّا عَلِمُوهُ ويُجَدِّدُ في نُفُوسِهِمْ
صفحة ٩٠
مُراقَبَةَ رَبِّهِمْ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ اللّامُ لِلْعِلَّةِ؛ أيْ ذِكْرٌ لِأجْلِ المُتَّقِينَ، أيْ كِتابٌ يَنْتَفِعُ بِما فِيهِ المُتَّقُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الضّالِّينَ.ووَصَفَهم بِما يَزِيدُ مَعْنى المُتَّقِينَ بَيانًا بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم بِالغَيْبِ﴾ وهو عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ [البقرة: ٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
والباءُ في قَوْلِهِ تَعالى (بِالغَيْبِ) بِمَعْنى (في) .
والغَيْبُ: ما غابَ عَنْ عُيُونِ النّاسِ، أيْ يَخْشَوْنَ رَبَّهم في خاصَّتِهِمْ لا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ رِياءً ولا لِأجْلِ خَوْفِ الزَّواجِرِ الدُّنْيَوِيَّةِ والمَذَمَّةِ مِنَ النّاسِ.
والإشْفاقُ: رَجاءُ حادِثٍ مَخُوفٍ. ومَعْنى الإشْفاقِ مِنَ السّاعَةِ: الإشْفاقُ مِن أهْوالِها، فَهم يُعِدُّونَ لَها عُدَّتَها بِالتَّقْوى بِقَدْرِ الِاسْتِطاعَةِ، وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِكِتابِ اللَّهِ تَعالى؛ بِدَلالَةِ مَفْهُومِ المُخالَفَةِ لِقَوْلِهِ تَعالى ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم بِالغَيْبِ﴾ . فَمَن لَمْ يَهْتَدِ بِكِتابِ اللَّهِ فَلَيْسَ هو مِنَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم بِالغَيْبِ، وهَؤُلاءِ هم فِرْعَوْنُ وقَوْمُهُ.
وقَدْ عَقَّبَ هَذا التَّعْرِيضَ بِذِكْرِ المَقْصُودِ مِن سَوْقِ الكَلامِ النّاشِئِ هو عَنْهُ، وهو المُقابَلَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿وهَذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أنْزَلْناهُ أفَأنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ . واسْمُ الإشارَةِ يُشِيرُ إلى القُرْآنِ لِأنَّ حُضُورَهُ في الأذْهانِ وفي التِّلاوَةِ بِمَنزِلَةِ حُضُورِ ذاتِهِ. ووَصْفُهُ القُرْآنَ بِأنَّهُ ذِكْرٌ لِأنَّ لَفْظَ الذِّكْرِ جامِعٌ لِجَمِيعِ الأوْصافِ المُتَقَدِّمَةِ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وأنْزَلْنا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤] في سُورَةِ النَّحْلِ.
ووَصْفُ القُرْآنِ بِالمُبارَكِ يَعُمُّ نَواحِيَ الخَيْرِ كُلَّها لِأنَّ البَرَكَةَ زِيادَةُ الخَيْرِ؛ فالقُرْآنُ كُلُّهُ خَيْرٌ مِن جِهَةِ بَلاغَةِ ألْفاظِهِ وحُسْنِها وسُرْعَةِ حِفْظِهِ وسُهُولَةِ تِلاوَتِهِ، وهو أيْضًا خَيْرٌ لِما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِن أفْنانِ الكَلامِ والحِكْمَةِ والشَّرِيعَةِ واللَّطائِفِ البَلاغِيَّةِ، وهو في ذَلِكَ كُلِّهِ آيَةٌ عَلى
صفحة ٩١
صِدْقِ الَّذِي جاءَ بِهِ لِأنَّ البَشَرَ عَجَزُوا عَنِ الإتْيانِ بِمِثْلِهِ وتَحَدّاهُمُ النَّبِيءُ ﷺ بِذَلِكَ فَما اسْتَطاعُوا، وبِذَلِكَ اهْتَدَتْ بِهِ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ في جَمِيعِ الأزْمانِ، وانْتَفَعَ بِهِ مَن آمَنُوا بِهِ وفَرِيقٌ مِمَّنْ حَرَّمُوا الإيمانَ. فَكانَ وصْفُهُ بِأنَّهُ مُبارَكٌ وافِيًا عَلى وصْفِ كِتابِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِأنَّهُ فُرْقانٌ وضِياءٌ. وزادَهُ تَشْرِيفًا بِإسْنادِ إنْزالِهِ إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ. وجُعِلَ الوَحْيُ إلى الرَّسُولِ إنْزالًا لِما يَقْتَضِيهِ الإنْزالُ مِن رِفْعَةِ القَدْرِ إذِ اعْتُبِرَ مُسْتَقِرًّا في العالَمِ العُلْوِيِّ حَتّى أُنْزِلَ إلى هَذا العالَمِ.وفُرِّعَ عَلى هَذِهِ الأوْصافِ العَظِيمَةِ اسْتِفْهامٌ تَوْبِيخِيٌّ تَعْجِيبِيٌّ مِن إنْكارِهِمْ صِدْقَ هَذا الكِتابِ ومِنِ اسْتِمْرارِهِمْ عَلى ذَلِكَ الإنْكارِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿أفَأنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ . ولِكَوْنِ إنْكارِهِمْ صِدْقَهُ حاصِلًا مِنهم في حالِ الخِطابِ جِيءَ بِالجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِيَتَأتّى جَعْلُ المُسْنَدِ اسْمًا دالًّا عَلى الِاتِّصافِ في زَمَنِ الحالِ وجَعْلُ الجُمْلَةِ دالَّةً عَلى الثَّباتِ في الوَصْفِ وفاءً بِحَقِّ بَلاغَةِ النَّظْمِ.