﴿قالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هَذا بِآلِهَتِنا يا إبْراهِيمُ﴾ ﴿قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهم هَذا فَسْألُوهم إنْ كانُوا يَنْطِقُونَ﴾ ﴿فَرَجَعُوا إلى أنْفُسِهِمْ فَقالُوا إنَّكم أنْتُمُ الظّالِمُونَ﴾ ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ﴾ ﴿قالَ أفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مالا يَنْفَعُكم شَيْئًا ولا يَضُرُّكُمْ﴾ ﴿أُفٍّ لَكم ولِما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾

وقَعَ هُنا حَذْفُ جُمْلَةٍ تَقْتَضِيها دَلالَةُ الِاقْتِضاءِ. والتَّقْدِيرُ: فَأْتُوا بِهِ فَقالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هَذا بِآلِهَتِنا.

وقَوْلُهُ تَعالى (بَلْ) إبْطالٌ لِأنْ يَكُونَ هو الفاعِلَ لِذَلِكَ، فَنَفى أنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ، لِأنَّ (بَلْ) تَقْتَضِي نَفْيَ ما دَلَّ عَلى كَلامِهِمْ مِنِ اسْتِفْهامِهِ.

وقَوْلُهُ تَعالى ﴿فَعَلَهُ كَبِيرُهم هَذا﴾ الخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنى التَّشْكِيكِ؛ أيْ لَعَلَّهُ فَعَلَهُ كَبِيرُهم إذْ لَمْ يَقْصِدْ إبْراهِيمُ نِسْبَةَ التَّحْطِيمِ إلى الصَّنَمِ الأكْبَرِ

صفحة ١٠١

لِأنَّهُ لَمْ يَدَّعِ أنَّهُ شاهَدَ ذَلِكَ ولَكِنَّهُ جاءَ بِكَلامٍ يُفِيدُ ظَنَّهُ بِذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَبْقَ صَحِيحًا مِنَ الأصْنامِ إلّا الكَبِيرُ. وفي تَجْوِيزِ أنْ يَكُونَ كَبِيرُهم هَذا الَّذِي حَطَّمَهم إخْطارُ دَلِيلِ انْتِفاءِ تَعَدُّدِ الآلِهَةِ لِأنَّهُ أوْهَمَهم أنَّ كَبِيرَهم غَضِبَ مِن مُشارَكَةِ تِلْكَ الأصْنامِ لَهُ في المَعْبُودِيَّةِ، وذَلِكَ تَدَرُّجٌ إلى دَلِيلِ الوَحْدانِيَّةِ، فَإبْراهِيمُ في إنْكارِهِ أنْ يَكُونَ هو الفاعِلَ أرادَ إلْزامَهُمُ الحُجَّةَ عَلى انْتِفاءِ أُلُوهِيَّةِ الصَّنَمِ العَظِيمِ، وانْتِفاءِ أُلُوهِيَّةِ الأصْنامِ المُحَطَّمَةِ بِطَرِيقِ الأوْلى عَلى نِيَّةِ أنْ يُقَرَّ عَلى ذَلِكَ كُلِّهِ بِالإبْطالِ ويُوقِنَهم بِأنَّهُ الَّذِي حَطَّمَ الأصْنامَ وأنَّها لَوْ كانَتْ آلِهَةً لَدَفَعَتْ عَنْ أنْفُسِها ولَوْ كانَ كَبِيرُهم كَبِيرَ الآلِهَةِ لَدَفَعَ عَنْ حاشِيَتِهِ وُحَرَفائِهِ، ولِذَلِكَ قالَ ﴿فاسْألُوهم إنْ كانُوا يَنْطِقُونَ﴾ تَهَكُّمًا بِهِمْ وتَعْرِيضًا بِأنَّ ما لا يَنْطِقُ ولا يُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهِ غَيْرُ أهْلٍ لِلْإلَهِيَّةِ.

وشَمِلَ ضَمِيرُ (فاسْألُوهم) جَمِيعَ الأصْنامِ ما تَحَطَّمَ مِنها وما بَقِيَ قائِمًا. والقَوْمُ وإنْ عَلِمُوا أنَّ الأصْنامَ لَمْ تَكُنْ تَتَكَلَّمُ مِن قَبْلُ إلّا أنَّ إبْراهِيمَ أرادَ أنْ يُقْنِعَهم بِأنَّ حَدَثًا عَظِيمًا مِثْلَ هَذا يُوجِبُ أنْ يَنْطِقُوا بِتَعْيِينِ مَن فَعَلَهُ بِهِمْ، وهَذا نَظِيرُ اسْتِدْلالِ عُلَماءِ الكَلامِ عَلى دَلالَةِ المُعْجِزَةِ عَلى صِدْقِ الرَّسُولِ بِأنَّ اللَّهَ لا يَخْرِقُ عادَةً لِتَصْدِيقِ الكاذِبِ، فَخَلْقُهُ خارِقَ العادَةِ عِنْدَ تَحَدِّي الرَّسُولِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ اللَّهَ أرادَ تَصْدِيقَهُ.

وأمّا ما رُوِيَ في الصَّحِيحِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ: «لَمْ يَكْذِبْ إبْراهِيمُ إلّا ثَلاثَ كَذِباتٍ ثِنْتَيْنِ مِنهُ في ذاتٍ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ: قَوْلُهُ ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: ٨٩] وقَوْلُهُ ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهم هَذا﴾ . وبَيْنا هو ذاتَ يَوْمٍ وسارَةُ إذْ أتى عَلى جَبّارٍ مِنَ الجَبابِرَةِ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ هاهُنا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأةٌ مِن أحْسَنِ النّاسِ فَأرْسَلَ إلَيْهِ فَقالَ: مَن هَذِهِ ؟ قالَ: أُخْتِي. فَأتى سارَةَ فَقالَ: يا سارَةُ لَيْسَ عَلى وجْهِ الأرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وغَيْرَكِ وإنَّ هَذا سَألَنِي فَأخْبَرْتُهُ أنَّكِ أُخْتِي فَلا تُكَذِّبِينِي» . . . . وساقَ الحَدِيثَ.

صفحة ١٠٢

فَمَعْناهُ أنَّهُ كَذَبَ في جَوابِهِ عَنْ قَوْلِ قَوْمِهِ ﴿أأنْتَ فَعَلْتَ هَذا بِآلِهَتِنا﴾ حَيْثُ قالَ ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهم هَذا﴾، لِأنَّ (بَلْ) إذا جاءَ بَعْدَ اسْتِفْهامٍ أفادَ إبْطالَ المُسْتَفْهَمِ عَنْهُ. فَقَوْلُهم ﴿أأنْتَ فَعَلْتَ هَذا﴾ سُؤالٌ عَنْ كَوْنِهِ مُحَطِّمَ الأصْنامِ، فَلَمّا قالَ (بَلْ) فَقَدْ نَفى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وهو نَفْيٌ مُخالِفٌ لِلْواقِعِ ولِاعْتِقادِهِ فَهو كَذِبٌ. غَيْرَ أنَّ الكَذِبَ مَذْمُومٌ ومَنهِيٌّ عَنْهُ ويُرَخَّصُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ مِثْلَ ما قالَهُ إبْراهِيمُ، فَهَذا الإضْرابُ كانَ تَمْهِيدًا لِلْحُجَّةِ عَلى نِيَّةِ أنْ يَتَّضِحَ لَهُمُ الحَقُّ بِآخِرَةٍ. ولِذَلِكَ قالَ ﴿أفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكم شَيْئًا ولا يَضُرُّكُمْ﴾ الآيَةَ.

أمّا الإخْبارُ بِقَوْلِهِ ﴿فَعَلَهُ كَبِيرُهم هَذا﴾ فَلَيْسَ كَذِبًا وإنْ كانَ مُخالِفًا لِلْواقِعِ ولِاعْتِقادِ المُتَكَلِّمِ لِأنَّ الكَلامَ والأخْبارَ إنَّما تَسْتَقِرُّ بِأواخِرِها وما يَعْقُبُها، كالكَلامِ المُعَقَّبِ بِشَرْطٍ أوِ اسْتِثْناءٍ، فَإنَّهُ لَمّا قَصَدَ تَنْبِيهَهم عَلى خَطَأِ عِبادَتِهِمْ لِلْأصْنامِ مَهَّدَ لِذَلِكَ كَلامًا هو جارٍ عَلى الفَرْضِ والتَّقْدِيرِ؛ فَكَأنَّهُ قالَ: لَوْ كانَ هَذا إلَهًا لَما رَضِيَ بِالِاعْتِداءِ عَلى شُرَكائِهِ، فَلَمّا حَصَلَ الِاعْتِداءُ عَلَيْهِمْ بِمَحْضَرِ كَبِيرِهِمْ تَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ هو الفاعِلَ لِذَلِكَ، ثُمَّ ارْتَقى في الِاسْتِدْلالِ بِأنْ سَلَبَ الإلَهِيَّةَ عَنْ جَمِيعِهِمْ بِقَوْلِهِ ﴿إنْ كانُوا يَنْطِقُونَ﴾ كَما تَقَدَّمَ.

فالمُرادُ مِنَ الحَدِيثِ أنَّها كَذِباتٌ في بادِئِ الأمْرِ وأنَّها عِنْدَ التَّأمُّلِ يَظْهَرُ المَقْصُودُ مِنها، وذَلِكَ أنَّ النَّهْيَ عَنِ الكَذِبِ إنَّما عِلَّتُهُ خَدْعُ المُخاطَبِ وما يَتَسَبَّبُ عَلى الخَبَرِ المَكْذُوبِ مِن جَرَيانِ الأعْمالِ عَلى اعْتِبارِ الواقِعِ بِخِلافِهِ. فَإذا كانَ الخَبَرُ يُعْقَبُ بِالصِّدْقِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنَ الكَذِبِ بَلْ كانَ تَعْرِيضًا أوْ مَزْحًا أوْ نَحْوَهُما.

وأمّا ما ورَدَ في حَدِيثِ الشَّفاعَةِ فَيَقُولُ إبْراهِيمُ: لَسْتُ هُناكم ويَذْكُرُ كَذِباتٍ كَذَبَها - فَمَعْناهُ أنَّهُ يَذْكُرُ أنَّهُ قالَ كَلامًا خِلافًا لِلْواقِعِ بِدُونِ إذْنِ اللَّهِ بِوَحْيٍ، ولَكِنَّهُ ارْتَكَبَ قَوْلَ خِلافِ الواقِعِ لِضَرُورَةِ الِاسْتِدْلالِ بِحَسَبِ اجْتِهادِهِ فَخَشِيَ أنْ لا يُصادِفَ اجْتِهادُهُ الصَّوابَ مِن مُرادِ اللَّهِ فَخَشِيَ عِتابَ اللَّهِ فَتَخَلَّصَ مِن ذَلِكَ المَوْقِفِ.

صفحة ١٠٣

وقَوْلُهُ تَعالى ﴿فَرَجَعُوا إلى أنْفُسِهِمْ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ فَرَجَعَ بَعْضُهم إلى بَعْضٍ، أيْ أقْبَلَ بَعْضُهم عَلى خِطابِ بَعْضٍ وأعْرَضُوا عَنْ مُخاطَبَةِ إبْراهِيمَ عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَسَلِّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ [النور: ٦١] وقَوْلِهِ تَعالى ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩]، أيْ فَقالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ إنَّكم أنْتُمُ الظّالِمُونَ.

وضَمائِرُ الجَمْعِ مُرادٌ مِنها التَّوْزِيعُ كَما في: رَكِبَ القَوْمُ دَوابَّهم، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ فَرَجَعَ كُلُّ واحِدٍ إلى نَفْسِهِ، أيْ تَرَكَ التَّأمُّلَ في تُهْمَةِ إبْراهِيمَ وتَدَبَّرَ في دِفاعِ إبْراهِيمَ. فَلاحَ لِكُلٍّ مِنهم أنَّ إبْراهِيمَ بَرِيءٌ فَقالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ ﴿إنَّكم أنْتُمُ الظّالِمُونَ﴾، وضَمائِرُ الجَمْعِ جارِيَةٌ عَلى أصْلِها المَعْرُوفِ. والجُمْلَةُ مُفِيدَةٌ لِلْحَصْرِ، أيْ أنْتُمْ ظالِمُونَ لا إبْراهِيمُ لِأنَّكم ألْصَقْتُمْ بِهِ التُّهْمَةَ بِأنَّهُ ظَلَمَ أصْنامَنا مَعَ أنَّ الظّاهِرَ أنْ نَسْألَها عَمَّنْ فَعَلَ بِها ذَلِكَ، ويَظْهَرُ أنَّ الفاعِلَ هو كَبِيرُهم.

والرُّجُوعُ إلى أنْفُسِهِمْ عَلى الِاحْتِمالَيْنِ السّابِقَيْنِ مُسْتَعارٌ لِشَغْلِ البالِ بِشَيْءٍ عَقِبَ شَغْلِهِ بِالغَيْرِ، كَما يَرْجِعُ المَرْءُ إلى بَيْتِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ إلى مَكانِ غَيْرِهِ. وفِعْلُ (نُكِسُوا) مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، أيْ نَكَسَهم ناكِسٌ، ولَمّا لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ النَّكْسِ فاعِلٌ إلّا أنْفُسُهم بُنِيَ الفِعْلُ لِلْمَجْهُولِ فَصارَ بِمَعْنى: انْتَكَسُوا عَلى رُؤُوسِهِمْ. وهَذا تَمْثِيلٌ.

والنَّكْسُ: قَلْبُ أعْلى الشَّيْءِ أسْفَلَهُ وأسْفَلَهُ أعْلاهُ، يُقالُ: صُلِبَ اللِّصُّ مَنكُوسًا، أيْ مَجْعُولًا رَأْسُهُ مُباشِرًا لِلْأرْضِ، وهو أقْبَحُ هَيْئاتِ المَصْلُوبِ. ولَمّا كانَ شَأْنُ انْتِصابِ جِسْمِ الإنْسانِ أنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلى قَدَمَيْهِ فَإذا نُكِّسَ صارَ انْتِصابُهُ كَأنَّهُ عَلى رَأْسِهِ، فَكانَ قَوْلُهُ هُنا ﴿نُكِسُوا عَلى رُءُوسِهِمْ﴾ تَمْثِيلًا لِتَغَيُّرِ رَأْيِهِمْ عَنِ الصَّوابِ كَما قالُوا ﴿إنَّكم أنْتُمُ الظّالِمُونَ﴾ إلى مُعاوَدَةِ الضَّلالِ بِهَيْئَةِ مَن تَغَيَّرَتْ أحْوالُهم مِنَ الِانْتِصابِ عَلى الأرْجُلِ إلى الِانْتِصابِ عَلى الرُّؤُوسِ مَنكُوسِينَ. فَهو مِن تَمْثِيلِ المَعْقُولِ

صفحة ١٠٤

بِالمَحْسُوسِ، والمَقْصُودُ بِهِ التَّشْنِيعُ. وحَرْفُ (عَلى) لِلِاسْتِعْلاءِ أيْ عَلَتْ أجْسادُهم فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ بِأنِ انْكَبُّوا انْكِبابًا شَدِيدًا بِحَيْثُ لا تَبْدُو رُؤُوسُهم. وتَحْتَمِلُ الآيَةُ وُجُوهًا أُخْرى أشارَ إلَيْها في الكَشّافِ.

والمَعْنى: ثُمَّ تَغَيَّرَتْ آراؤُهم بَعْدَ أنْ كادُوا يَعْتَرِفُونَ بِحُجَّةِ إبْراهِيمَ فَرَجَعُوا إلى المُكابَرَةِ والِانْتِصارِ لِلْأصْنامِ. فَقالُوا ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ ما هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ﴾، أيْ أنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَؤُلاءِ الأصْنامَ لا تَنْطِقُ فَما أرَدْتَ بِقَوْلِكَ ﴿فاسْألُوهم إنْ كانُوا يَنْطِقُونَ﴾ إلّا التَّنَصُّلَ مِن جَرِيمَتِكَ.

فَجُمْلَةُ (لَقَدْ عَلِمْتَ) إلى آخِرِها مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ ﴿فَقالُوا إنَّكم أنْتُمُ الظّالِمُونَ﴾، وجُمْلَةُ ﴿ما هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ﴾ تُفِيدُ تَقَوِّي الِاتِّصافِ بِانْعِدامِ النُّطْقِ، وذَلِكَ بِسَبَبِ انْعِدامِ آلَتِهِ وهي الألْسُنُ. وفِعْلُ (عَلِمْتَ) مُعَلَّقٌ عَنِ العَمَلِ لِوُجُودِ حَرْفِ النَّفْيِ بَعْدَهُ. فَلَمّا اعْتَرَفُوا بِأنَّ الأصْنامَ لا تَسْتَطِيعُ النُّطْقَ انْتَهَزَ إبْراهِيمُ الفُرْصَةَ لِإرْشادِهِمْ مُفَرِّعا عَلى اعْتِرافِهِمْ بِأنَّها لا تَنْطِقُ اسْتِفْهامًا إنْكارِيًّا عَلى عِبادَتِهِمْ إيّاها وزائِدًا بِأنَّ تِلْكَ الأصْنامَ لا تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ، وجَعَلَ عَدَمَ اسْتِطاعَتِها النَّفْعَ والضُّرَّ مَلْزُومًا لِعَدَمِ النُّطْقِ لِأنَّ النُّطْقَ هو واسِطَةُ الإفْهامِ، ومَن لا يَسْتَطِيعُ الإفْهامَ تَبَيَّنَ أنَّهُ مَعْدُومُ العَقْلِ وتَوابِعِهِ مِنَ العِلْمِ والإرادَةِ والقُدْرَةِ.

و(أُفٍّ) اسْمُ فِعْلٍ دالٌّ عَلى الضَّجَرِ، وهو مَنقُولٌ مِن صُورَةِ تَنَفُّسِ المُتَضَجِّرِ لِضِيقِ نَفْسِهِ مِنَ الغَضَبِ. وتَنْوِينُ (أُفٍّ) يُسَمّى تَنْوِينَ التَّنْكِيرِ، والمُرادُ بِهِ التَّعْظِيمُ، أيْ ضَجَرًا قَوِيًّا لَكم. وتَقَدَّمَ في سُورَةِ الإسْراءِ ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ﴾ [الإسراء: ٢٣] . واللّامُ في (لَكم) لِبَيانِ المُتَأفَّفِ بِسَبَبِهِ، أيْ أُفٍّ لِأجْلِكم ولِلْأصْنامِ الَّتِي تَعْبُدُونَها مِن دُونِ اللَّهِ.

صفحة ١٠٥

وإظْهارُ اسْمِ الجَلالَةِ لِزِيادَةِ البَيانِ وتَشْنِيعِ عِبادَةِ غَيْرِهِ.

وفَرَّعَ عَلى الإنْكارِ والتَّضَجُّرِ اسْتِفْهامًا إنْكارِيًّا عَنْ عَدَمِ تَدَبُّرِهِمْ في الأدِلَّةِ الواضِحَةِ مِنَ العَقْلِ والحِسِّ فَقالَ (أفَلا تَعْقِلُونَ) .