﴿ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأمْرِهِ إلى الأرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وكُنّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ﴾

عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الجِبالَ يُسَبِّحْنَ﴾ [الأنبياء: ٧٩] بِمُناسَبَةِ تَسْخِيرٍ خارِقٍ لِلْعادَةِ في كِلْتا القِصَّتَيْنِ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيئِينَ عَلَيْهِما السَّلامُ.

صفحة ١٢٣

والأرْضُ الَّتِي بارَكَ اللَّهُ فِيها هي أرْضُ الشّامِ. وتَسْخِيرُ الرِّيحِ: تَسْخِيرُها لِما تَصْلُحُ لَهُ، وهو سَيْرُ المَراكِبِ في البَحْرِ، والمُرادُ أنَّها تَجْرِي إلى الشّامِ راجِعَةً عَنِ الأقْطارِ الَّتِي خَرَجَتْ إلَيْها لِمَصالِحِ مُلْكِ سُلَيْمانَ مِن غَزْوٍ أوْ تِجارَةٍ بِقَرِينَةِ أنَّها مُسَخَّرَةٌ لِسُلَيْمانَ فَلا بُدَّ أنْ تَكُونَ سائِرَةً لِفائِدَةِ الأُمَّةِ الَّتِي هو مَلِكُها.

وعُلِمَ مِن أنَّها تَجْرِي إلى الأرْضِ الَّتِي بارَكَ اللَّهُ فِيها أنَّها تَخْرُجُ مِن تِلْكَ الأرْضِ حامِلَةً الجُنُودَ أوْ مُصَدِّرَةً البَضائِعَ الَّتِي تُصَدِّرُها مَمْلَكَةُ سُلَيْمانَ إلى بِلادِ الأرْضِ وتُقْفِلُ راجِعَةً بِالبَضائِعِ والمِيرَةِ ومَوادِّ الصِّناعَةِ وأسْلِحَةِ الجُنْدِ إلى أرْضِ فِلَسْطِينَ، فَوَقَعَ في الكَلامِ اكْتِفاءٌ اعْتِمادًا عَلى القَرِينَةِ. وقَدْ صَرَّحَ بِما اكْتَفى عَنْهُ هُنا في آيَةِ سُورَةِ سَبَأٍ ﴿ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ ورَواحُها شَهْرٌ﴾ [سبإ: ١٢] . ووَصْفُها هُنا بِـ (عاصِفَةً) بِمَعْنى قَوِيَّةٍ. ووَصْفُها في سُورَةِ ص بِأنَّها (رُخاءً) في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أصابَ﴾ [ص: ٣٦] .

والرُّخاءُ: اللَّيْلَةُ المُناسِبَةُ لِسَيْرِ الفُلْكِ. وذَلِكَ بِاخْتِلافِ الأحْوالِ فَإذا أرادَ الإسْراعَ في السَّيْرِ سارَتْ عاصِفَةً وإذا أرادَ اللِّينَ سارَتْ رُخاءً، والمُقامُ قَرِينَةٌ عَلى أنَّ المُرادَ المُواتاةُ لِإرادَةِ سُلَيْمانَ كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿تَجْرِي بِأمْرِهِ﴾ في الآيَتَيْنِ المُشْعِرُ بِاخْتِلافِ مَقْصِدِ سُلَيْمانَ مِنها كَما إذا كانَ هو راكِبًا في البَحْرِ فَإنَّهُ يُرِيدُها رُخاءً لِئَلّا تُزْعِجَهُ وإذا أصْدَرَتْ مَمْلَكَتُهُ بِضاعَةً أوِ اجْتَلَبَتْها سارَتْ عاصِفَةً وهَذا بَيِّنٌ بِالتَّأمُّلِ. وعَبَّرَ (بِأمْرِهِ) عَنْ رَغْبَتِهِ وما يُلائِمُ أسْفارَ سَفائِنِهِ وهي رِياحٌ مَوْسِمِيَّةٌ مُنْتَظِمَةٌ سَخَّرَها اللَّهُ لَهُ.

وأمْرُ سُلَيْمانَ دُعاؤُهُ اللَّهَ أنْ يُجْرِيَ الرِّيحَ كَما يُرِيدُ سُلَيْمانُ: إمّا دَعْوَةٌ عامَّةٌ كَقَوْلِهِ ﴿وهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ مِن بَعْدِي﴾ [ص: ٣٥] فَيَشْمَلُ

صفحة ١٢٤

كُلَّ ما بِهِ اسْتِقامَةُ أُمُورِ المُلْكِ وتَصارِيفِهِ، وإمّا دَعْوَةٌ خاصَّةٌ عِنْدَ كُلِّ سَفَرٍ لِمَراكِبِ سُلَيْمانَ فَجَعَلَ اللَّهُ الرِّياحَ المَوْسِمِيَّةَ في بِحارِ فِلَسْطِينَ مُدَّةَ مُلْكِ سُلَيْمانَ إكْرامًا لَهُ وتَأْيِيدًا إذْ كانَ هَمُّهُ نَشْرَ دِينِ الحَقِّ في الأرْضِ. وإنَّما جَعَلَ اللَّهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأمْرِ سُلَيْمانَ ولَمْ يَجْعَلْها تَجْرِي لِسُفُنِهِ لِأنَّ اللَّهَ سَخَّرَ الرِّيحَ لِكُلِّ السُّفُنِ الَّتِي فِيها مَصْلَحَةُ مُلْكِ سُلَيْمانَ فَإنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِ سُفُنُ تَرْشِيشٍ يَظُنُّ أنَّها طَرْطُوشَةٌ بِالأنْدَلُسِ أوْ قَرْطَجَنَّةَ بِإفْرِيقِيَّةَ وسُفُنُ حِيرامَ مَلِكِ صُورَ حامِلَةً الذَّهَبَ والفِضَّةَ والعاجَ والقِرَدَةَ والطَّواوِيسَ وهَدايا الآنِيَةِ والحُلَلَ والسِّلاحَ والطِّيبَ والخَيْلَ والبِغالَ كَما في الإصْحاحِ ١٠ مِن سِفْرِ المُلُوكِ الأوَّلِ. وجُمْلَةُ ﴿وكُنّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ﴾ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الجُمَلِ المَسُوقَةِ لِذِكْرِ عِنايَةِ اللَّهِ بِسُلَيْمانَ. والمُناسَبَةُ أنَّ تَسْخِيرَ الرِّيحِ لِمَصالِحِ سُلَيْمانَ أثَرٌ مِن آثارِ عِلْمِ اللَّهِ بِمُخْتَلِفِ أحْوالِ الأُمَمِ والأقالِيمِ وما هو مِنها لائِقٌ بِمَصْلَحَةِ سُلَيْمانَ فَيُجْرِي الأُمُورَ عَلى ما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ الَّتِي أرادَها سُبْحانَهُ إذْ قالَ ﴿وشَدَدْنا مُلْكَهُ﴾ [ص: ٢٠] .