صفحة ١٣٥

﴿وزَكَرِيّاءَ إذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وأنْتَ خَيْرُ الوارِثِينَ﴾ ﴿فاسْتَجَبْنا لَهُ ووَهَبْنا لَهُ يَحْيى وأصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ﴾ [الأنبياء: ٩٠]

كانَ أمْرُ زَكَرِيّاءَ الَّذِي أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿إذْ نادى رَبَّهُ﴾ [الأنبياء: ٨٣] آيَةً مِن آياتِ اللَّهِ في عِنايَتِهِ بِأوْلِيائِهِ المُنْقَطِعِينَ لِعِبادَتِهِ فَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِذَلِكَ. والقَوْلُ في عَطْفِ (وزَكَرِيّاءَ) كالقَوْلِ في نَظائِرِهِ السّابِقَةِ. وجُمْلَةُ ﴿رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا﴾ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ نادى رَبَّهُ. وأُطْلِقَ الفَرْدُ عَلى مَن لا ولَدَ لَهُ تَشْبِيهًا لَهُ بِالمُنْفَرِدِ الَّذِي لا قَرِينَ لَهُ. قالَ تَعالى ﴿وكُلُّهم آتِيهِ يَوْمَ القِيامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم: ٩٥]، ويُقالُ مِثْلَهُ: الواحِدُ لِلَّذِي لا رَفِيقَ لَهُ، قالَ الحارِثُ بْنُ هِشامٍ:

وعَلِمْتُ أنِّي إنْ أُقاتِـلْ واحِـدًا أُقْتَلْ ولا يَضْرُرْ عَدُوِّيَ مَشْهَدِي

فَشُبِّهَ مَن لا ولَدَ بِالمُفْرَدِ؛ لِأنَّ الوَلَدَ يُصَيِّرُ أباهُ كالشَّفْعِ لِأنَّهُ كَجُزْءٍ مِنهُ. ولا يُقالُ لِذِي الوَلَدِ زَوْجٌ ولا شَفْعٌ. وجُمْلَةُ ﴿وأنْتَ خَيْرُ الوارِثِينَ﴾ ثَناءٌ لِتَمْهِيدِ الإجابَةِ، أيْ أنْتَ الوارِثُ الحَقُّ فاقْضِ عَلَيَّ مِن صِفَتِكَ العَلِيَّةِ شَيْئًا. وقَدْ شاعَ في الكِتابِ والسُنَّةِ ذِكْرُ صِفَةٍ مِن صِفاتِ اللَّهِ عِنْدَ سُؤالِهِ إعْطاءَ ما هو مِن جِنْسِها، كَما قالَ أيُّوبُ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ، ودَلَّ ذِكْرُ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ سَألَ الوَلَدَ لِأجْلِ أنْ يَرِثَهُ كَما في آيَةِ سُورَةِ مَرْيَمَ ﴿يَرِثُنِي ويَرِثُ مِن آلِ يَعْقُوبَ﴾ [مريم: ٦] حُذِفَتْ هاتِهِ الجُمْلَةُ لِدَلالَةِ المَحْكِيِّ هُنا عَلَيْها. والتَّقْدِيرُ: يَرِثُنِي الإرْثَ الَّذِي لا يُدانِي إرْثَكَ عِبادَكَ، أيْ بَقاءَ ما تَرَكُوهُ في الدُّنْيا لِتَصَرُّفِ قُدْرَتِكَ، أوْ يَرِثُنِي مالِي وعِلْمِي وأنْتَ تَرِثُ نَفْسِي

صفحة ١٣٦

كُلَّها بِالمَصِيرِ إلَيْكَ مَصِيرًا أبَدِيًّا فَإرْثُكَ خَيْرُ إرْثٍ لِأنَّهُ أشْمَلُ وأبْقى وأنْتَ خَيْرُ الوارِثِينَ في تَحَقُّقِ هَذا الوَصْفِ.

وإصْلاحُ زَوْجِهِ: جَعَلَها صالِحَةً لِلْحَمْلِ بَعْدَ أنْ كانَتْ عاقِرًا وتَقَدَّمَ ذِكْرُ زَكَرِيّاءَ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ وذِكْرُ زَوْجِهِ في سُورَةِ مَرْيَمَ.