صفحة ١٩٢

﴿ومِنَ النّاسِ مَن يُجادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ويَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ﴾

عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿يا أيُّها النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ [الحج: ١]، أيِ النّاسُ فَرِيقانِ: فَرِيقٌ يَمْتَثِلُ الأمْرَ فَيَتَّقِي اللَّهَ ويَخْشى عَذابَهُ، وفَرِيقٌ يُعْرِضُ عَنْ ذَلِكَ ويُعارِضُهُ بِالجَدَلِ الباطِلِ في شَأْنِ اللَّهِ تَعالى مِن وحْدانِيَّتِهِ وصِفاتِهِ ورِسالَتِهِ. وهَذا الفَرِيقُ هم أئِمَّةُ الشِّرْكِ وزُعَماءُ الكُفْرِ لِأنَّهُمُ الَّذِينَ يَتَصَدَّوْنَ لِلْمُجادَلَةِ بِما لَهم مِن أغالِيطَ وسَفْسَطَةٍ وما لَهم مِن فَصاحَةٍ وتَمْوِيهٍ.

والِاقْتِصارُ عَلى ذِكْرِهِمْ إيماءٌ إلى أنَّهم لَوْلا تَضْلِيلُهم قَوْمَهم وصَدُّهم إيّاهم عَنْ مُتابَعَةِ الَّدِّينِ لاتَّبَعَ عامَّةُ المُشْرِكِينَ الإسْلامَ لِظُهُورِ حُجَّتِهِ وقَبُولِها في الفِطْرَةِ. وقِيلَ: أُرِيدَ بِـ ﴿مَن يُجادِلُ في اللَّهِ﴾ النَّضْرُ بْنُ الحارِثِ أوْ غَيْرُهُ كَما سَيَأْتِي، فَتَكُونُ (مِنَ) المَوْصُولَةُ صادِقَةً عَلى مُتَعَدِّدٍ عامَّةً لِكُلِّ مَن تَصْدُقُ عَلَيْهِ الصِّلَةُ.

والمُجادَلَةُ: المُخاصَمَةُ والمُحاجَّةُ. والظَّرْفِيَّةُ مَجازِيَّةٌ، أيْ يُجادِلُ جَدَلًا واقِعًا في شَأْنِ اللَّهِ. ووُصِفَ الجَدَلُ بِأنَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أيْ جَدَلًا مُلْتَبِسًا بِمُغايَرَةِ العِلْمِ، وغَيْرُ العِلْمِ هو الجَهْلُ، أيْ جَدَلًا ناشِئًا عَنْ سُوءِ نَظَرٍ وسُوءِ تَفْكِيرٍ فَلا يُعْلَمُ ما تَقْتَضِيهِ الأُلُوهِيَّةُ مِنَ الصِّفاتِ كالوَحْدانِيَّةِ والعِلْمِ وفِعْلِ ما يَشاءُ.

واتِّباعُ الشَّيْطانِ: الِانْقِيادُ إلى وسْوَسَتِهِ الَّتِي يَجِدُها في نَفْسِهِ والَّتِي تَلَقّاها بِمُعْتادِهِ والعَمَلُ بِذَلِكَ دُونَ تَرَدُّدٍ ولا عَرْضٍ عَلى نَظَرٍ واسْتِدْلالٍ. وكَلِمَةُ (كُلَّ) في قَوْلِهِ (كُلَّ شَيْطانٍ) مُسْتَعْمَلَةٌ في مَعْنى الكَثْرَةِ. كَما سَيَأْتِي قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وعَلى كُلِّ ضامِرٍ﴾ [الحج: ٢٧] في هَذِهِ السُّورَةِ.

صفحة ١٩٣

وتَقَدَّمَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَئِنْ أتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ [البقرة: ١٤٥] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

والمَرِيدُ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِن مَرُدَ - بِضَمِّ الرّاءِ - عَلى عَمَلٍ. إذا عَتا فِيهِ وبَلَغَ الغايَةَ الَّتِي تَتَجاوَزُ ما يَكُونُ عَلَيْهِ أصْحابُ ذَلِكَ العَمَلِ. وكَأنَّهُ مُحَوَّلٌ مِن مَرَدَ - بِفَتْحِ الرّاءِ - بِمَعْنى مَرَنَ إلى ضَمِّ الرّاءِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ الوَصْفَ صارَ لَهُ سَجِيَّةً، فالمَرِيدُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ. أيِ العاتِي في الشَّيْطَنَةِ.