﴿يا أيُّها النّاسُ إنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإنّا خَلَقْناكم مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكم ونُقِرُّ في الأرْحامِ ما نَشاءُ إلى أجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكم طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أشُدَّكم ومِنكم مَن يُتَوَفّى ومِنكم مَن يُرَدُّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾

صفحة ١٩٦

أعادَ خِطابَ النّاسِ بَعْدَ أنْ أنْذَرَهم بِزَلْزَلَةِ السّاعَةِ، وذَكَرَ أنَّ مِنهم مَن يُجادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَأعادَ خِطابَهم بِالِاسْتِدْلالِ عَلى إمْكانِ البَعْثِ وتَنْظِيرِهِ بِما هو أعْظَمُ مِنهُ. وهو الخَلْقُ الأوَّلُ. قالَ تَعالى ﴿أفَعَيِينا بِالخَلْقِ الأوَّلِ بَلْ هم في لَبْسٍ مِن خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [ق: ١٥] . فالَّذِي خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَدَمٍ وأخْرَجَهُ مِن تُرابٍ، ثُمَّ كَوَّنَهُ مِن ماءٍ. ثُمَّ خَلَقَهُ أطْوارًا عَجِيبَةً، إلى أنْ يَتَوَفّاهُ في أحْوالِ جِسْمِهِ وفي أحْوالِ عَقْلِهِ وإدْراكِهِ - قادِرٌ عَلى إعادَةِ خَلْقِهِ بَعْدَ فَنائِهِ.

ودُخُولُ المُشْرِكِينَ بادِئَ ذِي بَدْءٍ في هَذا الخِطابِ أظْهَرُ مِن دُخُولِهِمْ في الخِطابِ السّابِقِ لِأنَّهُمُ الَّذِينَ أنْكَرُوا البَعْثَ، فالمَقْصُودُ الِاسْتِدْلالُ عَلَيْهِمْ ولِذَلِكَ قِيلَ إنَّ الخِطابَ هُنا خاصٌّ بِهِمْ. وجُعِلَ رَيْبُهم في البَعْثِ مَفْرُوضًا بِـ (إنْ) الشَّرْطِيَّةِ مَعَ أنَّ رَيْبَهم مُحَقَّقٌ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ المَقامَ لَمّا حَفَّ بِهِ مِنَ الأدِلَّةِ المُبْطِلَةِ لِرَيْبِهِمْ يُنَزَّلُ مَنزِلَةَ مَقامِ مَن لا يَتَحَقَّقُ رَيْبُهُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى (﴿أفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾ [الزخرف: ٥]) . والظَّرْفِيَّةُ المُفادَةُ بِـ (في) مَجازِيَّةٌ. شُبِّهَتْ مُلابَسَةُ الرَّيْبِ إيّاهم بِإحاطَةِ الظَّرْفِ بِالمَظْرُوفِ.

وجُمْلَةُ ﴿فَإنّا خَلَقْناكم مِن تُرابٍ﴾ واقِعَةٌ مَوْقِعَ جَوابِ الشَّرْطِ ولَكِنَّها لا يَصْلُحُ لَفْظُها لِأنْ يَكُونَ جَوابًا لِهَذا الشَّرْطِ بَلْ هي دَلِيلُ الجَوابِ. والتَّقْدِيرُ: فاعْلَمُوا أوْ فَنُعْلِمُكم بِأنَّهُ مُمْكِنٌ كَما خَلَقْناكم مِن تُرابٍ مِثْلِ الرُّفاتِ الَّذِي تَصِيرُ إلَيْهِ الأجْسادُ بَعْدَ المَوْتِ، أوِ التَّقْدِيرُ: فانْظُرُوا في بَدْءِ خَلْقِكم فَإنّا خَلَقْناكم مِن تُرابٍ.

صفحة ١٩٧

والَّذِي خُلِقَ مِن تُرابٍ هو أصْلُ النَّوْعِ. وهو آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وحَوّاءُ، ثُمَّ كُوِّنَتْ في آدَمَ وزَوْجِهِ قُوَّةُ التَّناسُلِ. فَصارَ الخَلْقُ مِنَ النُّطْفَةِ فَلِذَلِكَ عُطِفَتْ بِـ (ثُمَّ) .

والنُّطْفَةُ: اسْمٌ لِمَنِيِّ الرَّجُلِ، وهو بِوَزْنِ فُعْلَةٍ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، أيْ مَنطُوفٍ. والنَّطْفُ: القَطْرُ والصَّبُّ. والعَلَقَةُ: القِطْعَةُ مِنَ الدَّمِ الجامِدِ اللِّينِ.

والمُضْغَةُ: القِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ بِقَدْرِ ما يُمْضَغُ مِثْلُهُ. وهي فِعْلَةٌ بِمَعْنى مَفْعُولَةٍ بِتَأْوِيلِ: مِقْدارٍ مَمْضُوغَةٍ. و(ثُمَّ) الَّتِي عُطِفَ بِها ﴿ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ﴾ عاطِفَةُ مُفْرَداتٍ فَهي لِلتَّراخِي الحَقِيقِيِّ.

و(مِن) المُكَرَّرَةُ أرْبَعَ مَرّاتٍ هُنا ابْتِدائِيَّةٌ وتَكْرِيرُها تَوْكِيدٌ. وكَوْنُ الإنْسانِ مَخْلُوقًا مِنَ النُّطْفَةِ لِأنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ في عِلْمِ الطِّبِّ أنَّ في رَحِمِ المَرْأةِ مُدَّةَ الحَيْضِ جُزْءًا هو مَقَرُّ الأجْرامِ الَّتِي أُعِدَّتْ لِأنْ يَتَكَوَّنَ مِنها الجَنِينُ، وهَذا الجُزْءُ مِنَ الرَّحِمِ يُسَمّى في الِاصْطِلاحِ الطِّبِّيِّ ”المَبِيضَ“ بِفَتْحِ المِيمِ وكَسْرِ المُوَحَّدَةِ عَلى وزْنِ اسْمِ المَكانِ لِأنَّهُ مَقَرُّ بَيْضاتٍ دَقِيقَةٍ هي حُبَيْباتٌ دَقِيقَةٌ جِدًّا وهي مِنَ المَرْأةِ بِمَنزِلَةِ البَيْضَةِ مِنَ الدَّجاجَةِ أوْ بِمَنزِلَةِ حُبُوبِ بَيْضِ الحُوتِ، مُودَعَةٌ في كُرَةٍ دَقِيقَةٍ كالغِلافِ لَها يُقالُ لَها الحُوَيْصِلَةُ بِضَمِّ الحاءِ بِصِيغَةِ تَصْغِيرِ حَوْصَلَةٍ تَشْتَمِلُ عَلى سائِلٍ تَسْبَحُ فِيهِ البَيْضَةُ فَإذا حاضَتِ المَرْأةُ ازْدادَتْ كَمِّيَّةُ ذَلِكَ السّائِلِ الَّذِي تَسْبَحُ فِيهِ البَيْضَةُ فَأوْجَبَ ذَلِكَ انْفِجارَ غِلافِ الحُوَيْصَلَةِ، فَيَأْخُذُ ذَلِكَ السّائِلُ في الِانْحِدارِ يَحْمِلُ البَيْضَةَ السّابِحَةَ فِيهِ إلى قَناةٍ دَقِيقَةٍ تُسَمّى بُوقَ فُلُوبْيُوسَ لِشِبْهِهِ بِالبُوقِ، وأُضِيفَ إلى ”فُلُوبْيُوسَ“ اسْمِ مُكْتَشِفِهِ. وهو البَرْزَخُ بَيْنَ المَبِيضِ والرَّحِمِ،

صفحة ١٩٨

فَإذا نَزَلَ فِيهِ ماءُ الرَّجُلِ وهو النُّطْفَةُ بَعْدَ انْتِهاءِ سِيلانِ دَمِ الحَيْضِ لُقِّحَتْ فِيهِ البَيْضَةُ واخْتَلَطَتْ أجْزاؤُها بِأجْزاءِ النُّطْفَةِ المُشْتَمِلَةِ عَلى جُرْثُوماتٍ ذاتِ حَياةٍ وتَمْكُثُ مَعَ البَيْضَةِ مُتَحَرِّكَةً مِقْدارَ سَبْعَةِ أيّامٍ تَكُونُ البَيْضَةُ في أثْنائِها تَتَطَوَّرُ بِالتَّشَكُّلِ بِشِبْهِ تَقْسِيمٍ مِن أثَرِ ضَغْطٍ طَبِيعِيٍّ، وفي نِهايَةِ تِلْكَ المُدَّةِ تَصِلُ البَيْضَةُ إلى الرَّحِمِ وهُنالِكَ تَأْخُذُ في التَّشَكُّلِ. وبَعْدَ أرْبَعِينَ يَوْمًا تَصِيرُ البَيْضَةُ عَلَقَةً في حَجْمِ نَمْلَةٍ كَبِيرَةٍ طُولُها مِن ١٢ إلى ١٤ مِيلِّيمِتْرَ. ثُمَّ يَزْدادُ تَشَكُّلُها فَتَصِيرُ قِطْعَةً صَغِيرَةً مِن لَحْمٍ هي المُسَمّاةُ مُضْغَةً طُولُها ثَلاثَةُ سَنْتِيمِتْرَ تَلُوحُ فِيها تَشْكِيلاتُ الوَجْهِ والأنْفِ خَفِيَّةً جِدًّا كالخُطُوطِ. ثُمَّ يَزْدادُ التَّشَكُّلُ يَوْمًا فَيَوْمًا إلى أنْ يَسْتَكْمِلَ الجَنِينُ مُدَّتَهُ فَيَنْدَفِعَ لِلْخُرُوجِ وهو الوِلادَةُ. فَقَوْلُهُ تَعالى ﴿مُخَلَّقَةٍ وغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ صِفَةُ (مُضْغَةٍ) . وذَلِكَ تَطَوُّرٌ مِن تَطَوُّراتِ المُضْغَةِ. إشارَةً إلى أطْوارِ تَشَكُّلِ تِلْكَ المُضْغَةِ فَإنَّها في أوَّلِ أمْرِها تَكُونُ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ، أيْ غَيْرُ ظاهِرٍ فِيها شَكْلُ الخِلْقَةِ. ثُمَّ تَكُونُ مُخَلَّقَةً، والمُرادُ تَشْكِيلُ الوَجْهِ ثُمَّ الأطْرافِ، ولِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ مِثْلُ هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ عِنْدَ ذِكْرِ النُّطْفَةِ والعَلَقَةِ، إذْ لَيْسَ لَهُما مِثْلُ هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ بِخِلافِ المُضْغَةِ. وإذْ قَدْ جُعِلَتِ المُضْغَةُ مِن مَبادِئِ الخَلْقِ تَعَيَّنَ أنَّ كِلا الوَصْفَيْنِ لازِمانِ لِلْمُضْغَةِ. فَلا يَسْتَقِيمُ تَفْسِيرُ مَن فَسَّرَ غَيْرَ المُخَلَّقَةِ بِأنَّها الَّتِي لَمْ يُكْمِلْ خَلْقُها فَسَقَطَتْ.

والتَّخْلِيقُ: صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلى تَكْرِيرِ الفِعْلِ، أيْ خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ، أيْ شَكْلًا بَعْدَ شَكْلٍ.

وقَدَّمَ ذِكْرَ المُخَلَّقَةِ عَلى ذِكْرِ غَيْرِ المُخَلَّقَةِ خِلافَ التَّرْتِيبِ في الوُجُودِ لِأنَّ المُخَلَّقَةَ أدْخَلُ في الِاسْتِدْلالِ، وذَكَرَ بَعْدَهُ غَيْرَ المُخَلَّقَةِ

صفحة ١٩٩

لِأنَّهُ إكْمالٌ لِلدَّلِيلِ وتَنْبِيهٌ عَلى أنَّ تَخْلِيقَها نَشَأ عَنْ عَدَمٍ. فَكِلا الحالَيْنِ دَلِيلٌ عَلى القُدْرَةِ عَلى الإنْشاءِ وهو المَقْصُودُ مِنَ الكَلامِ. ولِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿لِنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ أيْ لِنُظْهِرَ لَكم إذا تَأمَّلْتُمْ دَلِيلًا واضِحًا عَلى إمْكانِ الإحْياءِ بَعْدَ المَوْتِ.

واللّامُ لِلتَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِما في تَضْمِينِهِ جَوابُ الشَّرْطِ مِن فِعْلٍ ونَحْوِهِ تَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ ﴿فَإنّا خَلَقْناكم مِن تُرابٍ﴾ إلَخْ، وهو فِعْلُ: فاعْلَمُوا، أوْ فَنُعْلِمُكم، أوْ فانْظُرُوا.

وحُذِفَ مَفْعُولُ (لِنُبَيِّنَ) لِتَذْهَبَ النَّفْسُ في تَقْدِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ مِمّا يَرْجِعُ إلى بَيانِ ما في هَذِهِ التَّصَرُّفاتِ مِنَ القُدْرَةِ والحِكْمَةِ، أيْ لِنُبَيِّنَ لَكم قُدْرَتَنا وحِكْمَتَنا. وجُمْلَةُ (ونُقِرُّ) عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿فَإنّا خَلَقْناكم مِن تُرابٍ﴾ . وعَدَلَ عَنْ فِعْلِ المُضِيِّ إلى المُضارِعِ لِلدَّلالَةِ عَلى اسْتِحْضارِ تِلْكَ الحالَةِ لِما فِيها مِن مُشابَهَةِ اسْتِقْرارِ الأجْسادِ في الأجْداثِ ثُمَّ إخْراجِها مِنها بِالبَعْثِ كَما يَخْرُجُ الطِّفْلُ مِن قَرارَةِ الرَّحِمِ، مَعَ تَفاوُتِ القَرارِ. فَمِنَ الأجِنَّةِ ما يَبْقى سِتَّةَ أشْهُرٍ، ومِنها ما يَزِيدُ عَلى ذَلِكَ، وهو الَّذِي أفادَهُ إجْمالُ قَوْلِهِ تَعالى (إلى أجَلٍ مُسَمًّى) والِاسْتِدْلالُ في هَذا كُلِّهِ بِأنَّهُ إيجادٌ بَعْدَ العَدَمِ وإعْدامٌ بَعْدَ الوُجُودِ لِتَبْيِينِ إمْكانِ البَعْثِ بِالنَّظِيرِ وبِالضِّدِّ.

والأجَلُ: الأمَدُ المَجْعُولُ لِإتْمامِ عَمَلٍ ما، والمُرادُ هُنا مُدَّةُ الحَمْلِ.

والمُسَمّى: اسْمُ مَفْعُولِ سَمّاهُ إذا جَعَلَ لَهُ اسْمًا، ويُسْتَعارُ المُسَمّى لِلْمُعَيَّنِ المَضْبُوطِ لِضَبْطِ الأُمُورِ غَيْرِ المُشَخَّصَةِ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ أوْ وقْتٍ مَحْسُوبٍ، بِتَسْمِيَةِ الشَّخْصِ بِوَجْهِ شَبَهٍ يُمَيِّزُهُ عَمّا شابَهَهُ،

صفحة ٢٠٠

ومِنهُ قَوْلُ الفُقَهاءِ: المَهْرُ المُسَمّى، أيِ المُعَيَّنُ مِن نَقْدٍ مَعْدُودٍ أوْ عَرَضٍ مَوْصُوفٍ، وقَوْلُ المُوَثِّقِينَ: وسَمّى لَها مِنَ الصَّداقِ كَذا وكَذا. ولِكُلِّ مَوْلُودٍ مُدَّةٌ مُعَيَّنَةٌ عِنْدَ اللَّهِ لِبَقائِهِ في رَحِمِ أُمِّهِ قَبْلَ وضْعِهِ. والأكْثَرُ اسْتِكْمالُ تِسْعَةِ أشْهُرٍ وتِسْعَةِ أيّامٍ، وقَدْ يَكُونُ الوَضْعُ أسْرَعَ مِن تِلْكَ المُدَّةِ لِعارِضٍ، وكُلٌّ مُعَيَّنٌ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى. وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إلى أجَلٍ مُسَمًّى فاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢] في سُورَةِ البَقَرَةِ. وعَطَفَ جُمْلَةَ ﴿ثُمَّ نُخْرِجُكم طِفْلًا﴾ بِحَرْفِ (ثُمَّ) لِلدَّلالَةِ عَلى التَّراخِي الرُّتْبِيِّ؛ فَإنَّ إخْراجَ الجَنِينِ هو المَقْصُودُ، وقَوْلُهُ (طِفْلًا) حالٌ مِن ضَمِيرِ (نُخْرِجُكم)، أيْ حالَ كَوْنِكم أطْفالًا. وإنَّما أفْرَدَ (طِفْلًا) لِأنَّ المَقْصُودَ بِهِ الجِنْسُ فَهو بِمَنزِلَةِ الجَمْعِ.

وجُمْلَةُ ﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أشُدَّكُمْ﴾ مُرْتَبِطَةٌ بِجُمْلَةِ ﴿ثُمَّ نُخْرِجُكم طِفْلًا﴾ ارْتِباطَ العِلَّةِ بِالمَعْلُولِ، واللّامُ لِلتَّعْلِيلِ، والمُعَلَّلُ فِعْلُ ﴿نُخْرِجُكم طِفْلًا﴾ . وإذا قَدْ كانَتْ بَيْنَ الطِّفْلِ وحالِ بُلُوغِ الأشُدِّ أطْوارٌ كَثِيرَةٌ عُلِمَ أنَّ بُلُوغَ الأشُدِّ هو العِلَّةُ الكامِلَةُ لِحِكْمَةِ إخْراجِ الطِّفْلِ. وقَدْ أُشِيرَ إلى ما قَبْلَ بُلُوغِ الأشُدِّ وما بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ ﴿ومِنكم مَن يُتَوَفّى﴾ مِن قَبْلُ ﴿ومِنكم مَن يُرَدُّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ﴾ . وحَرْفُ (ثُمَّ) في قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أشُدَّكُمْ﴾ تَأْكِيدٌ لِمِثْلِهِ في قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ نُخْرِجُكم طِفْلًا﴾ هَذا ما ظَهَرَ لِي في اتِّصالِ هَذِهِ الجُمْلَةِ بِما قَبْلَها ولِلْمُفَسِّرِينَ تَوْجِيهاتٌ غَيْرُ سالِمَةٍ مِنَ التَّعَقُّبِ ذَكَرَها الأُلُوسِيُّ.

وإنَّما جُعِلَ بُلُوغُ الأشُدِّ عِلَّةً لِأنَّهُ أقْوى أطْوارِ الإنْسانِ وأجْلى مَظاهِرِ مَواهِبِهِ في الجِسْمِ والعَقْلِ وهو الجانِبُ الأهَمُّ كَما أوْمَأ إلى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذا ﴿لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ فَجَعَلَ (الأشُدَّ) كَأنَّهُ الغايَةُ المَقْصُودَةُ مِن تَطْوِيرِهِ.

صفحة ٢٠١

والأشُدُّ: سِنُّ الفُتُوَّةِ واسْتِجْماعِ القُوى. وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ يُوسُفَ ﴿ولَمّا بَلَغَ أشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْمًا وعِلْمًا﴾ [يوسف: ٢٢] . ووَقَعَ في سُورَةِ المُؤْمِنِينَ ﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أشُدَّكم ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا﴾ [غافر: ٦٧] . فَعَطَفَ طَوْرَ الشَّيْخُوخَةِ عَلى طَوْرِ الأشُدِّ بِاعْتِبارِ أنَّ الشَّيْخُوخَةَ مَقْصِدٌ لِلْأحْياءِ لِحُبِّهِمُ التَّعْمِيرَ. وتِلْكَ الآيَةُ ورَدَتْ مَوْرِدَ الِامْتِنانِ فَذُكِرَ فِيها الطَّوْرُ الَّذِي يَتَمَلّى المَرْءُ فِيهِ بِالحَياةِ. ولَمْ يُذْكَرْ في آيَةِ سُورَةِ الحَجِّ لِأنَّها ورَدَتْ مَوْرِدَ الِاسْتِدْلالِ عَلى الإحْياءِ بَعْدَ العَدَمِ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيها مِنَ الِاضْمِحْلالِ، ولِأنَّ المُخاطَبِينَ بِها فَرِيقٌ مُعَيَّنٌ مِنَ المُشْرِكِينَ كانُوا في طَوْرِ الأشُدِّ، وقَدْ نُبِّهُوا عَقِبَ ذَلِكَ إلى أنَّ مِنهم نَفَرًا يُرَدُّونَ إلى أرْذَلِ العُمُرِ، وهو طَوْرُ الشَّيْخُوخَةِ بِقَوْلِهِ ﴿ومِنكم مَن يُرَدُّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ﴾ . وجِيءَ بِقَوْلِهِ ﴿ومِنكم مَن يُتَوَفّى﴾ عَلى وجْهِ الِاعْتِراضِ اسْتِقْراءً لِأحْوالِ الأطْوارِ الدّالَّةِ عَلى عَظِيمِ القُدْرَةِ والحِكْمَةِ الإلَهِيَّةِ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلى تَخَلُّلِ الوُجُودِ والعَدَمِ أطْوارَ الإنْسانِ بَدْءًا ونِهايَةً كَما يَقْتَضِيهِ مَقامُ الِاسْتِدْلالِ عَلى البَعْثِ. والمَعْنى: ومِنكم مَن يُتَوَفّى قَبْلَ بُلُوغِ بَعْضِ الأطْوارِ. وأمّا أصْلُ الوَفاةِ فَهي لاحِقَةٌ لِكُلِّ إنْسانٍ لا لِبَعْضِهِمْ، وقَدْ صَرَّحَ بِهَذا في سُورَةِ المُؤْمِنِ ﴿ومِنكم مَن يُتَوَفّى مِن قَبْلُ﴾ [غافر: ٦٧] .

وقَوْلُهُ ﴿ومِنكم مَن يُرَدُّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ﴾ هو عَدِيلُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومِنكم مَن يُتَوَفّى﴾ . وسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ المَوْتِ بَعْدَ أرْذَلِ العُمُرِ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ بِطَرِيقَةِ لَحْنِ الخِطابِ.

صفحة ٢٠٢

وجَعَلَ انْتِفاءَ عِلْمِ الإنْسانِ عِنْدَ أرْذَلِ العُمُرِ عِلَّةً إلى أرْذَلِ العُمُرِ بِاعْتِبارِ أنَّهُ عِلَّةٌ غائِيَّةٌ لِذَلِكَ لِأنَّهُ مِمّا اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ اللَّهِ في نِظامِ الخَلْقِ فَكانَ حُصُولُهُ مَقْصُودًا عِنْدَ رَدِّ الإنْسانِ إلى أرْذَلِ العُمُرِ، فَإنَّ ضَعْفَ القُوى الجِسْمِيَّةِ يَسْتَتْبِعُ ضَعْفَ القُوى العَقْلِيَّةِ؛ قالَ تَعالى ﴿ومَن نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ في الخَلْقِ﴾ [يس: ٦٨] فالخَلْقُ يَشْمَلُ كُلَّ ما هو مِنَ الخِلْقَةِ ولا يَخْتَصُّ بِالجِسْمِ. وقَوْلُهُ ﴿مِن بَعْدِ عِلْمٍ﴾ أيْ بَعْدَ ما كانَ عَلِمَهُ فِيما قَبْلَ أرْذَلِ العُمُرِ. و(مِن) الدّاخِلَةُ عَلى (بَعْدَ) هُنا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ عَلى رَأْيِ الأخْفَشِ وابْنِ مالِكٍ مِن عَدَمِ انْحِصارِ زِيادَةِ (مِن) في خُصُوصِ جَرِّ النَّكِرَةِ بَعْدَ نَفْيٍ وشِبْهِهِ، أوْ هي لِلِابْتِداءِ عِنْدَ الجُمْهُورِ وهو ابْتِداءٌ صُورِيٌّ يُساوِي مَعْنى التَّأْكِيدِ، ولِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ بِـ (مِن) في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ في سُورَةِ النَّحْلِ. والآيَتانِ بِمَعْنًى واحِدٍ فَذِكْرُ (مِن) هُنا تَفَنُّنٌ في سِياقِ العِبْرَتَيْنِ. و(شَيْئًا) واقِعٌ في سِياقِ النَّفْيِ يَعُمُّ كُلَّ مَعْلُومٍ، أيْ لا يَسْتَفِيدُ مَعْلُومًا جَدِيدًا. ولِذَلِكَ مَراتِبُ في ضَعْفِ العَقْلِ بِحَسَبِ تَوَغُّلِهِ في أرْذَلِ العُمُرِ تَبْلُغُ إلى مَرْتَبَةِ انْعِدامِ قَبُولِهِ لِعِلْمٍ جَدِيدٍ، وقَبْلَها مَراتِبُ مِنَ الضَّعْفِ مُتَفاوِتَةٌ كَمَرْتَبَةِ نِسْيانِ الأشْياءِ ومَرْتَبَةِ الِاخْتِلاطِ بَيْنَ المَعْلُوماتِ وغَيْرِ ذَلِكَ.

* * *

﴿وتَرى الأرْضَ هامِدَةً فَإذا أنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ وأنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾

عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿فَإنّا خَلَقْناكم مِن تُرابٍ﴾، والخِطابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مَن يَسْمَعُ هَذا الكَلامَ.

صفحة ٢٠٣

وهَذا ارْتِقاءٌ في الِاسْتِدْلالِ عَلى الإحْياءِ بَعْدَ المَوْتِ بِقِياسِ التَّمْثِيلِ لِأنَّهُ اسْتِدْلالٌ بِحالَةٍ مُشاهَدَةٍ فَلِذَلِكَ افْتُتِحَ بِفِعْلِ الرُّؤْيَةِ. بِخِلافِ الِاسْتِدْلالِ بِخَلْقِ الإنْسانِ فَإنَّ مَبْدَأهُ غَيْرُ مُشاهَدٍ فَقِيلَ في شَأْنِهِ ﴿فَإنّا خَلَقْناكم مِن تُرابٍ﴾ الآيَةَ. ومَحَلُّ الِاسْتِدْلالِ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَإذا أنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ﴾ . فَهو مُناسِبٌ قَوْلَهُ في الِاسْتِدْلالِ الأوَّلِ ﴿فَإنّا خَلَقْناكم مِن تُرابٍ﴾، فَهُمُودُ الأرْضِ بِمَنزِلَةِ مَوْتِ الإنْسانِ واهْتِزازُها وإنْباتُها بَعْدَ ذَلِكَ يُماثِلُ الإحْياءَ بَعْدَ المَوْتِ.

والهُمُودُ: قَرِيبٌ مِنَ الخُمُودِ. فَهُمُودُ الأرْضِ جَفافُها وزَوالُ نَبْتِها، وهُمُودُ النّارِ خُمُودُها.

والِاهْتِزازُ: التَّحَرُّكُ إلى أعْلى، فاهْتِزازُ الأرْضِ تَمْثِيلٌ لِحالِ ارْتِفاعِ تُرابِها بِالماءِ وحالِ ارْتِفاعِ وجَهِها بِما عَلَيْهِ مِنَ العُشْبِ بِحالِ الَّذِي يَهْتَزُّ ويَتَحَرَّكُ إلى أعْلى.

ورَبَتْ: حَصَلَ لَها رُبُوٌّ بِضَمِّ الرّاءِ وضَمِّ المُوَحَّدَةِ وهو ازْدِيادُ الشَّيْءِ؛ يُقالُ: رَبا يَرْبُو رُبُوًّا، وفُسِّرَ هُنا بِانْتِفاخِ الأرْضِ مِن تَفَتُّقِ النَّبْتِ والشَّجَرِ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ ورَبَأتْ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ المُوَحَّدَةِ، أيِ ارْتَفَعَتْ. ومِنهُ قَوْلُهم: رَبَأ بِنَفْسِهِ عَنْ كَذا، أيِ ارْتَفَعَ مَجازًا، وهو فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الرَّبِيئَةِ وهو الَّذِي يَعْلُو رَبْوَةً مِنَ الأرْضِ لِيَنْظُرَ هَلْ مِن عَدُوٍّ يَسِيرُ إلَيْهِمْ.

والزَّوْجُ: الصِّنْفُ مِنَ الأشْياءِ. أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الزَّوْجِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالزَّوْجِ مِنَ الحَيَوانِ وهو صِنْفُ الذَّكَرِ وصِنْفُ الأُنْثى. لِأنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِن أحَدِ الصِّنْفَيْنِ يَقْتَرِنُ بِالفَرْدِ مِنَ الصِّنْفِ الآخَرِ فَيَصِيرُ زَوْجًا فَيُسَمّى كُلُّ واحِدٍ مِنهُما زَوْجًا بِهَذا المَعْنى، ثُمَّ شاعَ إطْلاقُهُ عَلى أحَدِ الصِّنْفَيْنِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى كُلِّ نَوْعٍ وصِنْفٍ وإنْ لَمْ يَكُنْ ذَكَرًا ولا أُنْثى. فَأُطْلِقَ هُنا عَلى أنْواعِ النَّباتِ.

صفحة ٢٠٤

والبَهِيجُ: الحَسَنُ المَنظَرِ السّارُّ لِلنّاظِرِ. وقَدْ سِيقَ هَذا الوَصْفُ إدْماجًا لِلِامْتِنانِ في أثْناءِ الِاسْتِدْلالِ امْتِنانًا بِجَمالِ صُورَةِ الأرْضِ المُنْبِتَةِ، لِأنَّ كَوْنَهُ بَهِيجًا لا دَخْلَ لَهُ في الِاسْتِدْلالِ، فَهو امْتِنانٌ مَحْضٌ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَكم فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ [النحل: ٦] وقَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَقَدْ زَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ﴾ [الملك: ٥] .