﴿المُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهم فالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ في جَنّاتِ النَّعِيمِ﴾ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولَئِكَ لَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾ ﴿والَّذِينَ هاجَرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وإنَّ اللَّهَ لَهْوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ ﴿لَيُدْخِلَنَّهم مَّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وإنَّ اللَّهَ لِعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾

صفحة ٣٠٩

آذَنَتِ الغايَةُ الَّتِي في قَوْلِهِ ﴿حَتّى تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً﴾ [الحج: ٥٥] أنَّ ذَلِكَ وقْتُ زَوالِ مِرْيَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَكانَ ذَلِكَ مَنشَأ سُؤالِ سائِلٍ عَنْ صُورَةِ زَوالِ المِرْيَةِ، وعَنْ ماذا يَلْقَوْنَهُ عِنْدَ زَوالِها، فَكانَ المَقامُ أنْ يُجابَ السُّؤالُ بِجُمْلَةِ ﴿المُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ إلى آخِرِ ما فِيها مِنَ التَّفْصِيلِ، فَهي اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ.

فَقَوْلُهُ (يَوْمَئِذٍ) تَقْدِيرُ مُضافِهِ الَّذِي عَوَّضَ عَنْهُ التَّنْوِينُ: يَوْمَ إذْ تَزُولُ مِرْيَتُهم بِحُلُولِ السّاعَةِ وظُهُورِ أنَّ ما وعَدَهُمُ اللَّهُ هو الحَقُّ، أوْ يَوْمَ إذْ تَأْتِيهِمُ السّاعَةُ بَغْتَةً. وجُمْلَةُ (يَحْكُمُ بَيْنَهم) اشْتِمالٌ مِن جُمْلَةِ ﴿المُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ .

والحُكْمُ بَيْنَهُمُ: الحُكْمُ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنِ ادِّعاءِ كُلِّ فَرِيقٍ أنَّهُ عَلى الحَقِّ وأنْ ضِدَّهُ عَلى الباطِلِ، الدّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ﴾ [الحج: ٥٤] وقَوْلُهُ ﴿ولا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا في مِرْيَةٍ مِنهُ﴾ [الحج: ٥٥] فَقَدْ يَكُونُ الحُكْمُ بِالقَوْلِ، وقَدْ يَكُونُ بِظُهُورِ آثارِ الحَقِّ لِفَرِيقٍ وظُهُورِ آثارِ الباطِلِ لِفَرِيقٍ. وقَدْ فُصِّلَ الحُكْمُ بِقَوْلِهِ ﴿فالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [الحج: ٥٠] إلَخْ، وهو تَفْصِيلٌ لِأثَرِ الحُكْمِ يَدُلُّ عَلى تَفْصِيلِ أصْلِهِ، أيْ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ بَيْنَهم في ذَلِكَ اليَوْمِ.

وأُرِيدَ بِالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ عُمُومُهُ. وخُصَّ بِالذِّكْرِ مِنهُمُ الَّذِينَ هاجَرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أوْ ماتُوا تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الهِجْرَةِ، ولِأجْلِها اسْتَوى أصْحابُها في دَرَجاتِ الآخِرَةِ سَواءٌ مِنهم مَن قُتِلَ في سَبِيلِ اللَّهِ أوْ ماتَ في غَيْرِ قِتالٍ بَعْدَ أنْ هاجَرَ مِن دارِ الكُفْرِ.

صفحة ٣١٠

والتَّعْرِيفُ في (المُلْكُ) تَعْرِيفُ الجِنْسِ. فَدَلَّتْ جُمْلَةُ ﴿المُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ عَلى أنَّ ماهِيَّةَ المُلْكِ مَقْصُورَةٌ يَوْمَئِذٍ عَلى الكَوْنِ مُلْكًا لِلَّهِ. كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى الحَمْدُ لِلَّهِ، أيْ لا مُلْكَ لِغَيْرِهِ يَوْمَئِذٍ.

والمَقْصُودُ بِالكَلامِ هو جُمْلَةُ يَحْكُمُ بَيْنَهم إذْ هي البَدَلُ. وإنَّما قُدِّمَتْ جُمْلَةُ ﴿المُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ تَمْهِيدًا لَها، ولِيَقَعَ البَيانُ بِالبَدَلِ بَعْدَ الإبْهامِ الَّذِي في المُبْدَلِ مِنهُ.

وافْتُتِحَ الخَبَرُ عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاسْمِ الإشارَةِ في قَوْلِهِ ﴿فَأُولَئِكَ لَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا العَذابَ المُهِينَ لِأجْلِ ما تَقَدَّمَ مِن صِفَتِهِمْ بِالكُفْرِ والتَّكْذِيبِ بِالآياتِ.

والمُهِينُ: المُذِلُّ، أيْ لَهم عَذابٌ مُشْتَمِلٌ عَلى ما فِيهِ مَذَلَّتُهم كالضَّرْبِ بِالمَقامِعِ ونَحْوِهِ.

وقُرِنَ ﴿فَأُولَئِكَ لَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾ بِالفاءِ لِما تَضَمَّنَهُ التَّقْسِيمُ مِن مَعْنى حَرْفِ التَّفْصِيلِ وهو (أمّا)، كَأنَّهُ قِيلَ: وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا، لِأنَّهُ لَمّا تَقَدَّمَ ثَوابُ الَّذِينَ آمَنُوا كانَ المَقامُ مُثِيرًا لِسُؤالِ مَن يَتَرَقَّبُ مُقابَلَةَ ثَوابِ المُؤْمِنِينَ بِعِقابِ الكافِرِينَ وتِلْكَ المُقابَلَةُ مِن مَواقِعِ حَرْفِ التَّفْصِيلِ.

والرِّزْقُ: العَطاءُ، وهو كُلُّ ما يُتَفَضَّلُ بِهِ مِن أعْيانٍ ومَنافِعَ. ووَصْفُهُ بِالحُسْنِ لِإفادَةِ أنَّهُ يُرْضِيهِمْ بِحَيْثُ لا يَتَطَلَّبُونَ غَيْرَهُ لِأنَّهُ لا أحْسَنَ مِنهُ. وجُمْلَةُ ﴿لَيُدْخِلَنَّهم مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ﴾ بَدَلٌ مِن جُمْلَةِ ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾، وهي بَدَلُ اشْتِمالٍ، لِأنَّ كَرامَةَ المَنزِلِ مِن جُمْلَةِ

صفحة ٣١١

الإحْسانِ في العَطاءِ بَلْ هي أبْهَجُ لَدى أهْلِ الهِمَمِ، ولِذَلِكَ وُصِفَ المَدْخَلُ بِـ (يَرْضَوْنَهُ) . ووَقَعَتْ جُمْلَةُ ﴿وإنَّ اللَّهَ لَهو خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ البَدَلِ والمُبْدَلِ مِنهُ. وصَرِيحُها الثَّناءُ عَلى اللَّهِ، وكِنايَتُها التَّعْرِيضُ بِأنَّ الرِّزْقَ الَّذِي يَرْزُقُهُمَ اللَّهُ هو خَيْرُ الأرْزاقِ لِصُدُورِهِ مِن خَيْرِ الرّازِقِينَ. وأُكِّدَتَ الجُمْلَةُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ ولامِهِ وضَمِيرِ الفَصْلِ تَصْوِيرًا لِعَظَمَةِ رِزْقِ اللَّهِ تَعالى. وجُمْلَةُ ﴿وإنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ تَذْيِيلٌ، أيْ عَلِيمٌ بِما تَجَشَّمُوهُ مِنَ المَشاقِّ في شَأْنِ هِجْرَتِهِمْ مِن دِيارِهِمْ وأهْلِهِمْ وأمْوالِهِمْ، وهو حَلِيمٌ بِهِمْ فِيما لاقَوْهُ فَهو يُجازِيهِمْ بِما لاقَوْهُ مِن أجْلِهِ. وهَذِهِ الآيَةُ تُبَيِّنُ مَزِيَّةَ المُهاجِرِينَ في الإسْلامِ.

وقَرَأ نافِعٌ (مَدْخَلًا) بِفَتْحِ المِيمِ عَلى أنَّها اسْمُ مَكانٍ مِن دَخَلَ المُجَرَّدِ؛ لِأنَّ الإدْخالَ يَقْتَضِي الدُّخُولَ. وقَرَأ الباقُونَ بِضَمِّ المِيمِ جَرْيًا عَلى فِعْلِ (لَيُدْخِلَنَّهُمُ) المَزِيدِ وهو أيْضًا اسْمُ مَكانٍ لِلْإدْخالِ.